اتساع دائرة مرض الاكتئاب والاضطرابات النفسية في سائر الدول العربية
يعرف الاكتئاب بانه اضطراب نفسي وعقلي يصيب الأشخاص في كل المراحل العمرية, ومن كل الفئات المجتمعية، حيث يتسم بظهور أعراض فقدان الطاقة واضطرابات في الشهية، واضطرابات في النوم والقلق ومشاكل في التركيز وفي اتخاذ القرارات وشعور بالإحباط واليأس، وقد يرافق هذه الأعراض تفكير في الانتحار.
ويجد الأشخاص المصابون بالاكتئاب الذين لا يتلقون العلاج المناسب صعوبة في العمل والمشاركة في الحياة المجتمعية، فيما يعتبر التحدث مع الأقرباء عن الإصابة بهذا المرض أولى الخطوات للشفاء.
وحسب منظمة الصحة العالمية، يعدّ الاكتئاب السبب الأول للمرض والعجز في العالم حيث يصيب أزيد من 300 مليون شخص، وللدول العربية نصيب مرتفع من هذا العدد خاصة تلك التي تشهد صراعات وحروبا، إضافة إلى المصاعب الاقتصادية والاجتماعية.
وما يزيد من حدة المشكلة أن المصابين بالاكتئاب والأمراض النفسية الأخرى في الوطن العربي يرفضون عيادة الأطباء النفسيين خوفا من تهمة الجنون في حين يختار آخرون الذهاب إلى المشعوذين والدجالين.
ناقوس الخطر
اختيار موضوع اليوم العالمي للصحة 2017 له ما يبرره بالفعل لدى المنظمة التي أكدت بالمناسبة أن الاكتئاب هو السبب الرئيسي لاعتلال الصحة والعجز في جميع أنحاء العالم، موضحة أن غياب تقديم الدعم للأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية وتخوّف المرضى من الوصم يحُول دون ولوج الكثير منهم للعلاج اللازم لاسترجاع عافيتهم وإنتاجيتهم.
وتعتبر المديرة العامة للمنظمة مارغريت تشان أن “هذه الأرقام الجديدة تدق ناقوس الخطر كي تعيد جميع البلدان التفكير في المقاربات التي تنتهجها في مجال الصحة النفسية بالصفة العاجلة التي تستحقها”.
وفي الوطن العربي تصاعدت حدّة التداعيات النفسية الناتجة عن موجات الربيع العربي والصراعات الأهلية، إضافة إلى المصاعب الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها شعوب المنطقة. ويتفق معظم الأطباء النفسيين والمنظمات غير الحكومية على أنّ الارتفاع الحادّ في الاكتئاب على امتداد المنطقة منذ اندلاع “ثورات الربيع العربي” هو نتيجة لتردّي الأحوال الاجتماعية، مما أدّى إلى زيادة التوجه لاستخدام المخدرات والانخراط في التنظيمات المتطرفة.
ويتفق معظم الأطباء النفسيين في الوطن العربي أن المرضى النفسيين كثيرا ما ينخرطون في نقاشات ذات طابع ديني، وذلك بسبب الطبيعة المتدينة للمجتمعات العربية.
وكشفت دراسة صادرة عن “المعهد الدنماركي ضد التعذيب” في 2014، أن حوالي ثلث الشعب الليبي يعاني من مشكلات نفسية نتيجة انتشار العنف والصراعات الدامية، حيث أوضح التقرير أن 29 بالمئة من الذين شملهم البحث يعانون من التوتر و30 بالمئة من الاكتئاب، بينما بلغت نسبة الافتقاد إلى الشعور بالأمن حوالي 46.4 بالمئة ممن شملتهم الدراسة.
ويتساءل خبراء الصحة النفسية كيف يمكن أن يستعيد الشعب السوري صحته النفسية بعد سبع سنوات مليئة بمظاهر القتل والتعذيب والاغتصاب وعمليات الاختطاف وحرق المنازل والتهجير؟
ففي تقرير لها عام 2015 كشفت وزارة الصحة في سوريا للمرة الأولى عن حجم الضرر النفسي الذي تعرض له السوريون، مشيرة إلى أن الاضطرابات النفسية قد ازدادت بنسبة 25 بالمئة عمّا كانت عليه قبل اندلاع الحرب، وأن محاولات الانتحار قد ارتفعت بشكل لافت للانتباه، ويضيف التقرير أن 40 بالمئة من عامة السوريين يحتاجون إلى دعم نفسي واجتماعي.
ورغم أن الأرقام عادة ما تكون غير دقيقة نتيجة التحفظات الحكومية أو الأسرية، فإن منظمة الصحة العالمية كشفت عن تزايد أعداد المصابين بالاكتئاب نتيجة تزايد الأزمات الإنسانية والنزاعات والنزوح السكاني في الوطن العربي، وخصوصا في إقليم شرق المتوسط، والذي يضمّ لبنان وسوريا والأردن وفلسطين وقبرص.
ويقول الطبيب النفسي الدكتور هيثم عبدالرزاق، إن العراقيين يعانون من أسوأ أنواع التوتّر المتوقع، ولكن النقطة الصعبة تكمن في إقناعهم بمراجعة مراكز الرعاية.
وما يعقّد المشكلة هو استمرار العنف وتداخله مع الحياة المدنية واليومية في العراق واليمن وسوريا من خلال مسلسل التفجيرات والاغتيالات ومشاهد الدم والجثث المتناثرة والمحترقة نتيجة التفجيرات الإرهابية المتكررة.
ويرى الطبيب النفسي محمد الأزري وهو من جامعة ليستر في بريطانيا أن نتيجة استمرار العنف هو تطوّر الحالة المرضية التي يطلق عليها “الاضطراب العصبي لما بعد الإصابة” الى مرحلة ثانية هي الاضطراب العصبي “الدائم” الناتج عن الإصابة.
وفي دراسة وضعتها منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع وزارة الصحة تبين أن أكثر من نصف سكان العراق قد تعرّضوا إلى البعض من أنواع الضرر النفسي، ولكن هناك 3.5 بالمئة قد تطورت حالتهم إلى مرض “الاضطراب التوتري لما بعد الإصابة”.
وإذا كانت الصورة التي رسمها الأطباء النفسيون تعكس قتامة الوضع المرتبط بالصحة النفسية للمواطنين العراقيين، فإنها تسهم أيضاً في تعرية واقع هش يفتقد فيه نظام الرعاية الصحية إلى الأدوات اللازمة للقيام بمهامه المفترضة.
وحذّر خبراء في مجال الصحة النفسية من الآثار الخطيرة الناجمة عن تزايد أعراض الأمراض النفسية بسبب تزايد الضغوط التي يعاني منها العراقيون والسوريون واليمنيون خلال الحروب المستمرة. وكشفوا عن تزايد أمراض انفصام الشخصية وارتفاع نسبة تعاطي العقاقير المخدرة والخمور وانتشار التدخين بشكل متزايد كآثار لمعاناة الشعوب في مناطق الصراع.
وقال الخبراء النفسيون، إن نقص الخدمات المقدّمة والأدوية في علاج المرضى النفسيين وقلة الأطباء في هذا الاختصاص من أبرز عوامل تفاقم الحالات النفسية في هذه البلدان.
ويصف الطبيب معين العالول، أخصائي الأمراض النفسية والعصبية، قطاع غزة بـ”الحاضنة المليئة بالأمراض النفسية المتراكمة”، نتيجة الحرب وتدمير المنازل والقتلى والمصابين والأسرى، مرورا بالأزمات المعيشية والاكتظاظ السكاني وارتفاع معدلات البطالة والفقر، إضافة إلى تقييد حرية الحركة.
لا يقتصر انتشار الاكتئاب والأمراض النفسية على شعوب الدول التي تعيش صراعات وأزمات، بل إن كل شعوب الدول العربية تعاني من تفشي الأمراض النفسية حتى في الدول الغنية، تقول الأخصائية النفسية السعودية ملاك المليك “المرضى النفسيون يشكّلون نسبة عالية من أفراد المجتمع من الذكور والإناث في السعودية تصل إلى 50 بالمئة”.
وأضافت “بما أن السعودية تشهد ازديادا في عدد السكان، من المتوقع ارتفاع المرضى النفسيين بسبب متغيرات الحياة السريعة، وقلة فرص العمل، وانتشار المخدرات التي تسبب الكثير من الأمراض النفسية، مثل الاكتئاب ومرض القلق النفسي”.
وتسمّى هذه الأمراض النفسية بأمراض العصر وهي متفشية بين شعوب العالم، ففي الدول المتقدّمة يزور المكتئبون والقلقون عيادات الأمراض النفسية دون تأخير، لكن في وطننا العربي تنتشر ظاهرة عدم الاعتراف بالأمراض النفسية وحتى العقلية من قبل المحيط الأسري، فإذا نصحت أحدهم بأن يشرح حالته لطبيب نفسي يجيب بقوله “وهل أنا مجنون لأذهب إلى طبيب نفسي؟”.
ويلجأ أغلب المرضى إلى الرقية أو الشعوذة قبل أن يقصدوا الطبيب المختص، وهذا ما يعرّض المريض إلى مضاعفات أخرى قد يكون في منأى عنها لو أنه توجه مباشرة إلى الطبيب والمختص النفسي، ولكن غياب الوعي يحول دون ذلك.
وخلصت دراسة أعدّها الدكتور إسماعيل محمد الحكيم في 2015 إلى أنّ العالم العربي، ينفق سنويا أكثر من خمسة مليارات دولار على أعمال الدجل والشعوذة.
وظاهرة الخوف من العلاج النفسي تعود إلى عدم التثقيف والتوعية وعدم معرفة المرض وإمكانية علاجه ينجرّ عنها لجوء البعض من المرضى، خاصة الإناث، إلى مشعوذين ومعالجين شعبيين لا يدركون طبيعة المرض.
ويقول أخصائيون إن الاعتقاد السائد في المجتمع العربي بأن زيارة الفتاة لطبيب نفسي يؤثر على دراستها وزواجها ومستقبلها بشكل عام، ما يجعل تلك الفتيات حبيسات بيوتهن وكثيراً ما ينال منهن المرض النفسي.
ويؤكد الباحثون الاجتماعيون أن الشعب العربي يقاطع الطبيب النفسي رغم مشاكله الكثيرة بسبب الضغوط الاجتماعية، مشيرين إلى أن شخصية العربي تعاني من الضعف لعدم اعترافه بالأمراض والمشاكل النفسية التي يواجهها وعدم امتلاك الإرادة لمعالجتها.
ويؤكد الخبراء على التخلص من الوصمة الاجتماعية التي تعيق عملية اللجوء إلى الطب النفسي، ومحاسبة المشعوذين والمعالجين بالسحر والتوعية بعدم اللجوء إليهم.
وقالت منظمة الصحة العالمية، إن التحدث فقط عن الاكتئاب مع الأصدقاء وأفراد الأسرة والزملاء والمهنيين، أو كجزء من مجموعة في المدرسة أو العمل أو الأماكن الاجتماعية، أو من خلال وسائل الإعلام الاجتماعية يمكن أن يساعد على الحد من الوصمة المرتبطة بهذا المرض، داعية إلى مكافحة الوصمة وتشجيع المزيد من المصابين بالاكتئاب على التحدث.
وأضاف بيان صادر عن المنظمة، أنه في يوم الصحة العالمي، تدعو منظمة الصحة العالمية الأفراد والمجتمعات إلى التحدث عن الاكتئاب ومحاربة الوصم المحيط به.
وشعار هذا العام “الاكتئاب: دعونا نتحدًّث عنه”. فالتحدث عن الاكتئاب يساعد على تحطيم ممارسات الوصم ويشجع المزيد من المصابين على طلب المساعدة.
وتقول المنظمة إنه “إذا تُرك الاكتئاب دون علاج، فإنه يمكن أن يؤثر على العلاقات الخاصة للمصاب مع العائلة والأصدقاء، فضلا عن الأنشطة والمهام اليومية، والضرر الذي يلحق بالقدرة على العمل وكسب العيش”.