تقرير لمراكز الابحاث الامريكية يفضح “أزمة الحكم في اميركا لان ترامب غارق في الرمال”
التقرير الدوري لمراكز الابحاث الامريكية تضمن هذا الاسبوع تحليلاً سياسياً يقترب في لغته ومفرداته من التقارير والتحليلات الخاصة بدول العالم الثالث المعروفة بتخلفها, وليس العالم الاول المعروف بتقدمه الحضاري والديموقراطي.
وفيما يلي نص هذا التقرير الذي يميط اللثام عن ازمة الحكم في واشنطن في عهد الرئيس ترامب.
ابرز الاسئلة على ألسنة العامة والمختصين على السواء تمحورت حول قضيتين: هل لترامب علاقة “خفية” مع موسكو؛ ثم هل من دليل يثبت ادعاءه بالتنصت الرسمي على مكالماته بقرار رئاسي – او ما شابه. الاجابة القاطعة ليست ضمن المتاح من المعلومات، وربما الهدف الابعد هو القاء ظلال من الشك على أهلية “الرئيس ترامب” القيام بمهامه “والدفاع عن المصالح الوطنية.”
من المرجح ان يبقى السؤال الاول معلقا لدواعي الحفاظ على هيبة المؤسسة الحاكمة، وان كان الثمن الاطاحة بعدد من اعضاء ادارة ترامب. اما سؤال التجسس فقد اجاب عليه بوضوح لا غبار عليه النائب السابق في مجلس النواب، رون بول، قائلا “.. بالطبع. الدولة تتجسس على كل فرد منا.” (27 آذار 2017).
بول استند في حكمه القاطع على ملابسات تصريحات رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب، ديفين نيونيز، مطلع الاسبوع الجاري بالزعم ان “بعض اعضاء حملة ترامب الانتخابية، وربما ترامب نفسه .. كانوا ضحية معلومات جانبية جمعت عن غير قصد.”
ويمضي بول في تعليل قراره انه لو صحت تلك المقولة فأن “احد ما اصدر أمرا رسميا لمراقبة شبكة الاتصالات الخاصة بحملة ترامب الانتخابية .. وقد يكون الرئيس اوباما باستناده الى المادة 702 من قرار مراقبة الاتصالات الأجنبية” على الاراضي الاميركية، الصادر عام 2008. المادة تعرف للعامة بأنها “اطلاق يد الدولة في التجسس الداخلي لقاء توفيرها الحماية من العمليات الارهابية.”
يستدرك بول بالقول اننا حقيقة لا ندري إن كان الرئيس اوباما متورطا ام لا، ام هي ثمة استعراض عضلات لخصوم ترامب السياسيين بغية الحاق الضرر بحملته.
صراع مراكز القوى
على الطرف المقابل، تتصاعد التجاذبات والمنافسة بين مؤسسة الرئاسة والكونغرس في سعي ثابت لاعضاء الحزب الديموقراطي، بشكل اولي، الصاق تهمة محاباة ترامب لروسيا وتدخلها المزعوم في الانتخابات الرئاسية لصالحه. بينما في حقيقة الأمر ينفذ ترامب عكس ذلك وبالتعارض مع وعوده الانتخابية، بل يواصل العداء لروسيا ويمارس رياضة التعرض لقوانين البيئة وتفكيك القيود التي فرضها الرئيس اوباما على الشركات الكبرى عبر ولايتيه الرئاسيتين.
التدقيق في طبيعة “الصراع” المشار اليه يقود المرء لتشكل قطب جديد نافذ وبقوة في السياسة الاميركية عماده الصقور في كلا الحزبين، “المحافظين الجدد،” بالتضافر مع اذرع الاجهزة الأمنية – لا سيما مسؤولين ومدراء سابقين في وكالة الاستخبارات المركزية.
للدلالة، يتردد الان بقوة ان المدير الاسبق للوكالة المركزية، جيمس وولسي، هو من بادر بالاتصال بصحيفة وول ستريت جورنال ومشاركتها “بعض” المعلومات الحساسة التي تخص مستشار الأمن القومي السابق، مايك فلين، لا سيما نشاطاته التجارية مع اللوبيات التركية وآخرين. يشار الى ان وولسي كان احد اعضاء حملة ترامب الانتخابية منذ وقت مبكر وتم “الاستغناء” عن خدماته لتضارب آرائه وترامب حول رؤية الاخير للاجهزة الاستخباراتية التي ينوي اعادة تشكيلها.
وذهب وولسي بعيدا في اثبات “الادلة،” الظرفية والمادية، للصحيفة المذكورة، 24 آذار الجاري، والتي تدحض ادعاءات ترامب وفريقه في عدد من القضايا. على سبيل المثال، يزعم وولسي انه “شارك” في لقاء معد بين المستشار السابق مايك فلين “وعدد من مسؤولين اتراك رفيعي المستوى، من ضمنهم وزيري الخارجية والطاقة نسيب الرئيس اردوغان، ايلول 2016 .. استعرض فيه السبل التي من شأنها تسليم الولايات المتحدة للمطلوب لانقره، فتح الله غولين.” ويضيف وولسي ان “غولين مجند قديم لوكالة الاستخبارات المركزية.”
نسرد هذا العرض لتبيان ربما ما هو اخطر في تقرير الصحيفة اذ اوردت في نهاية المقال ان شركة “اينوفو” التركية مقرها في هولندا، ومملوكة لاحد مقربي اردوغان – ايكيم ألب تكين – ابرمت عقدا كبيرا مع المستشار السابق مايك فلين، قيمته نصف مليون دولار لمدة 3 أشهر “بالنيابة عن شركة اسرائيلية تعمل في قطاع تصدير الغاز الطبيعي الى تركيا ..” من حقلي “ليفياتان وتامار” في مياه البحر المتوسط.
باستطاعة المرء استكشاف البعد “الاسرائيلي” في صراع مراكز القوى، عند الاخذ بعين الاعتبار ان “وولسي” لا يزال من اشد مناصري “اسرائيل،” داخل المؤسسة وخارجها، وما قام به ضد مشغله السابق فلين هو لابعاد الشبهة عن نفسه بالتطوع لتسريب معلومات منتقاة، كما يعتقد بعض الخبراء الأمنيين.
من ابرز مظاهر صراع مراكز القوى المتعددة ما يجري من استقطابات حادة داخل الحزب الجمهوري واعضائه في الكونغرس، اذ استطاع فريق ضئيل العدد من كبار المتشددين في الحزب من الاطاحة بتعديل برنامج الضمان الصحي نظرا لعدم تلبيته شروطهم ومتطلباتهم المقترحة، التي ظلت حتى اللحظات الأخيرة قيد المراهنة.
بل شكلت هزيمة بالمعنى الاشمل لجوهر برنامج الحزب الجمهوري الذي راهن على استثمار حجم التوفير الحكومي على برنامج الضمان الصحي، تراوحت التقديرات بين 300 الى 500 مليار دولار على امتداد عشرة سنوات، لتبرير اقدامهم على تقليص معدلات الضرائب على الميسورين والاثرياء.
يستدل من ذلك ان الخريطة السياسية للحزب الجمهوري تحديدا ستشهد تباينات علانية ربما اشد مما ظهر، واضحى الحزب “التقليدي والمحافظ” أسير خطابه المتشدد عينه وعجز قادته عن رأب الصدع في بنية الحزب.
الهزيمة التي تلقاها ترامب في مطلع ولايته ليست بالهينة عليه، لا سيمال وان احد اركان خطابه الانتخابي ووعوده السياسية كان استحداث قرار ضمان صحي جديد، بالاستناد الى الاغلبية العددية من الجمهوريين في مجلسي الكونغرس. واضطر، رغم خطابه الواثق من النجاح، الى سحب المشروع بعد استحالة اقناع عدد كافٍ من الجمهوريين، وهم من صوت على تمرير القانون الاصلي عام 2010.
وما لبث ترامب ان لجأ لمهاراته العملية بالقفز عن المسألة قيد البحث، وتجرع الهزيمة، والانتقال الى مسائل اخرى مدرجة على جدول اعماله ابرزها نيته تخفيض حجم الضرائب على الشرائح العليا وكبار الاثرياء، وهي مسألة تحظى باجماع الحزبين.
ولعل المستفيد الاكبر من “الهزيمة” كان ترامب اذ تحمل المسؤولية رئيس مجلس النواب بول رايان وفريق الحزب الجمهوري الاكثر تشددا، “تجمع الحرية،” وما ستتركه من تداعيات على الانتخابات النصفية المقبلة، عام 2018، التي ستطال كافة اعضاء مجلس النواب، 435، ونحو ثلث مقاعد مجلس الشيوخ – 34 مقعدا؛ فضلا عن انتخابات مناصب حكام الولايات لنحو 39 ولاية من أصل 50. وعليه، تحول اعضاء الكونغرس بمجلسيه الى حالة اشبه بالدعاية الانتخابية المستمرة والشلل العملي، وتداعياتها السلبية على التئام اعضائه او الموافقة على استصدار قوانين “جديدة” مدرجة على جدول اعمال الرئيس ترامب.
على جانب الحزب الديموقراطي، فقد استعاد بعض حيويته في التصدي والمعارضة لبرامج ترامب وفريقه، ونال زخما اضافيا عقب هزيمة مشروع استبدال “اوباما كير،” كان في أمسّ الحاجة اليه، واضحى اقل ميلا للمساومة بين الفريقين – بعبارة اخرى استبدل موقع الحزب الجمهوري في التعامل “السلبي” مع الرئيس اوباما.
اما اوضاع الحزب الداخلية فلا زالت تعاني من وطأة الانقسامات الانتخابية، بين جناحي كلينتون وبيرني ساندرز؛ وتداعيات الفضائح السياسية التي نشرتها ويكيليكس عن اللجنة الوطنية (المركزية) للحزب، مما أدى لاقالة المدير التنفيذي ومن خلفها في المنصب. بل ان رئيس اللجنة المنتخب حديثا، توم بيرز، طلب من كافة اعضاء موظفي اللجنة تقديم كتاب الاستقالة كي يتسنى له النظر مجددا في تعيين ما يراه مناسبا لاجندة الحزب.
ترامب: الى متى
سلسلة متواصلة من الهزائم “لحكم” ترامب ارخت ظلالها على الاداء الاميركي العام. وحذرت اسبوعية ذي ايكونوميست، في عددها الاخير من ان الرئيس ترامب “عالق في الرمال .. ورئاسته في حفرة” حفرها بنفسه: بدءا بقراراته الرئاسية الاقصائية، الى تحديه القضاء الاميركي لتجميده العمل بقرار رئاسي يحظر دخول مواطني سبع دول عربية واسلامية، مرورا بعثرات فريقه الداخلي واقالة مستشاره للأمن القومي، وانتهاء بهزيمة برنامجه لاستبدال الضمان الصحي.
هناك اجماع بين اقطاب المؤسسة الاميركية لحث ترامب على الاقرار بأن آليات التعامل التجاري “تختلف تماما عن آليات الحكم،” التي تخضع للرقابة والمساءلة. اما مديات كراهيته للمؤسسات الاعلامية فهي مؤشر على اخفاقات داخلية يعاني منها، ويلقي باللائمة على الآخرين لقصوره الذاتي.
اما الهزيمة السياسية التي تلقاها في الكونغرس فانها تدل على ما هو ابعد من تصارع تيارات عدة داخل الحزب الجمهوري، وتؤشر على خلل بنيوي كامن في مشروع القرار المقدم، فضلا عن تسطيح مُخِلّ لقضايا متشعبة تقتضي حنكة ودراية عالية.
الانحدار الحاد في شعبيته، 35%، يدل على تآكل قاعدته الاجتماعية “العمالية،” بالدرجة الاولى؛ وفشل فريقه في استقطاب تيارات اخرى خارج الحزب الجمهوري الذي اصبح في وضع يهدد احدهما بقاء الآخر.
الخروج من مأزق الصراعات الحادة داخل الحزب الواحد ومع عموم المؤسسة الحاكمة يقتضي بناء تحالفات بين الفريقين: ترامب بحاجة ماسة لاستقطاب واسترضاء قادة الحزب الديموقراطي، واشراكهم في الاستفادة من “مشاريع البنى التحتية الضخمة،” التي وعد بها ترامب. فالقاعدة العمالية للحزب الديموقراطي تنوء تحت وطأة شح فرص العمل، والطرفان باستطاعتهما “انقاذ” بعضا من سمعة وهيبة منصب الرئاسة – في المدى المنظور على الاقل.
البديل الآخر هو ما يحذر منه ويخشاه كبار المسؤولين: استشراء حالة الشلل وتبادل الاتهامات، وعجز كلا الفريقين عن استنباط “آليات حكم” بعد انكشاف الغلاف العازل لهيبة مؤسسة تستعصي على الحكم السوي.