نُذر بلير.. و”المصالحة التاريخية” !
بقلم : عبد اللطيف مهنا
لطالما كانت مواقف وتحرُّكات توني بلير تشكل نذير شؤم في كل ما يتعلق بقضايا أمتنا والمنطقة. لنذكِّر فقط بدوره الشهير في حبك الأكاذيب لنسج الذرائع لغزو العراق وتدميره وإيصاله إلى راهنه الفجائعي، ونشير فحسب لجهوده المتصهينة لاحقاً، أي بعد مغادرته للسلطة، وكمبعوث لسيئة الصيت “الرباعية الدولية”. ونتوقف أمام ما بشَّر به أخيراً في مؤتمر “ايباك” السنوي الأخير، والذي يلخِّص كل ما كرَّس ونذر نفسه له طيلة مهمته كمبعوث دولي، وبعد انتهائها وحتى اللحظة، وهو الاسهام في محاولات تصفية القضية باجتراع الحلول الملتوية، التي من شأنها استدراج التسوويين الفلسطينيين والعرب إلى شرك التصفية المتطابقة مع الرؤية الصهيونية، وأقله، تلك التي ينادي بها نتنياهو علناً ويضمر الأسوأ منهاً في مخططاته غير المعلنة.
في طروحاته الأخيرة أمام “ايباك” أعاد بلير طباعة ما ينادي به نتنياهو في نسخة تتواءم مع الرؤية الأميركية المستجدة في نسختها الترامبوية ولا تشذ عنها، وملخَّصها أن التفاهم والتطبيع مع الدول العربية أولاً هو الطريق الأفضل والأنجع لتسهيل الحل، أو بالأحرى، فرضه على الفلسطينيين، ومهَّد لذلك بقوله:
“لن يكون في وسعنا التوصُّل إلى السلام بالاعتماد على الخطوات السابقة، نحتاج إلى منهجية جديدة لتحقيق تقدُّم”.
وإذا كانت تلك الخطوات السابقة التي يعنيها قد تمحورت، كما هو معروف، حول ما سمي “حل الدولتين”، الذي تجاوزته الوقائع التهويدية على الأرض، وتركته الإدارة الأميركية خلفها، فما هى المنهجية الجديدة التي ينادي بها بلير نيابة عن نتنياهو وترامب مجتمعين، أو ما وصفها بالحاجة المُلِّحة لتبني “مقاربة مغايرة لأجل التوصُّل إلى سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين”؟!
يجيب بلير على سؤالنا بقوله: إن “المفتاح لهذه المقاربة يتمثل اليوم في رأيي في نوعية علاقة إسرائيل مع دول المنطقة”. بمعنى أن بلير يوجه مفتاحه باتجاه الأبواب العربية الرجراجة أولاً ويعتبر انجاز فتحها يتكفَّل بتسهيل معالجة الباب الفلسطيني، أو الاستفراد به، ويدلل بثقة على نجاعة مفتاحه هذا مؤكداً: إن مسلسل “ربط الجسور بين إسرائيل والعالم العربي يسير في الواقع على أحسن وجه”!
لا حاجة للفت الانتباه إلى أن بلير هنا يكرر تماماً ما سبقه إليه نتنياهو، ويتفق كلياً مع فحوى التسريبات حول رؤية ترامب لوضع نهاية للصراع وتصفية القضية، من هنا يمكن رؤية أقواله هذه بمثابة نذير بما سنشهده من الآن فصاعداً من حركة تصفوية اميركية يمكن التنبؤ سلفاً بكنهها، والتي تقول التسريبات أنها لا تعدو أكثر من إعادة إحياءٍ لحل شارون الشهير القائم على “دولة مؤقتة”، منزوعة السلاح، وتحت اشراف دولي، في مناطق اوسلو المعروفة بأقسامها الثلاثة ا، ب، ج، أي ما لا يتجاوز60% من مساحة الضفة، مقابل التنازل الصريح عن القدس، والمستعمرات، وحق العودة، ويُترك ما يتبقى مما يسمى قضايا الحل النهائي للمفاوضات لاحقاً…يقال أن غرينبلت موفد الرئيس ترامب في جولته الأخيرة في فلسطين المحتلة قد طرح على رام اللة، وكتمهيد للمفاوضات، ما دعاه “تقليص الاستيطان” مقابل إيقاف دفع مخصصات اسر الشهداء والأسرى الفلسطينيين…بالمناسبة، لمن لا يعرف المبعوث جايسون غرينبلت، هو واحد من صهاينة الإدارة الترامبوية الذي لا يقل حماسةً للتهويد عن سفيرها الجديد في تل أبيب ديفيد فريدمان، بل وكان في نهاية ثمانينات القرن المنصرم يتابع دراسته في احدى المدارس الدينية “التلمودية” في مستعمرات الضفة.
لعل ما يتفق مع هكذا توجهات، هو ما جاء في تجديد مايك بنس نائب الرئيس الأميركي، وأيضاً أمام مؤتمر “ايباك”، التنويه بعدم تخلي الإدارة الأميركية عن فكرة نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. ثم إن ما طرحة بلير وما قيل أن غرينبلت قد طرحه في رام اللة، ومعه تأكيدات بنس لإيباك، كله ينسجم مع ما نقله الإعلام على لسان غرينبلت نفسه لاحقاً، وهذه المرة وهو يأتي كمبعوث ينوب عن الرئيس ترامب لحضور قمة البحر الميت العربية، حول ما دعاه “مؤتمراً اقليمياً لعملية السلام مع اطلاق مفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين”، ودون أن يتطرق لذكر “حل الدولتين”.
بيد أن كل ما تقدم، يعيدنا إلى ما بدأنا به حول نذر بلير سيئة الطالع والمردود على قضايانا، والآن على القضية الفلسطينية بالذات، لا سيما إذا ما ربطناه بمسألتين:
ما نقلته صحيفة “هآرتس” من أن ترامب قد وجَّه رسالةً لنتنياهو عبر صديقهما المشترك المحامي آلان دروشوفيتش فحواها أنه “يريد التوَّصل لصفقة بين إسرائيل والفلسطينيين”، وبأنه “يعتقد أن الظروف ناضجة، وإن هذا الأمر ممكن”.
أما الثانية، فالتصريحات التي أحدثت جلبة استبقت انعقاد القمة العربية وانهالت على إثرها تصريحات النفي العربية، نعني تصريحات الأمين العام للجامعة العربية حول توجُه تسووي سماه “إعادة صياغة لبعض الأفكار” في سياق خطة تسوية “للموضوع الفلسطيني”، قال أنه سيُحمل بعيد انفضاضها إلى ترامب في واشنطن، الأمر الذي أوحى حينها بنية تعديل ما تسمى “مبادرة السلام العربية”، أو ما بدا وكأنما بلير يعيد المقاربة وأبو الغيط يتكفَّل بإعادة صياغتها!
…القمة وجَّهت جلَّ رسائلها باتجاه ترامب، ولم تعدِّل مبادرتها المرفوضة منذ أن طرحتها، بل أعادت التأكيد عليها، لكنها اضافت مصطلحاً جديداً على قاموس الصراع ويطرح لأول مرة وهو “المصالحة التاريخية”!