شاعر لا يشبه إلا قصيدته

 

يبدو لي أن للشاعر الذي تصهل في شرايينه موهبةٌ حقيقية، شغفاً خاصاً بالعمل على تحقيق بصمة تميزه عن سواه. ولا شك أن ذلك سيمثل، بالنسبة إليه، تحدياً جمالياً وأسلوبياً ونفسياً. ذلك لأن السماء تعجّ بالنسور وطيور الرخّ المقيمة في الأعالي، وليس للطائر الجديد إلاّ ما بقي من سماء مكتظة بالأجنحة المتلاطمة وبقايا الريش. وفي أجواء كهذه، قد لا يحظى هذا الطائر الجديد، في بداياته، إلاّ بأذيال السماء المرخاة على الأرض، أو بقاياها التي عافتها الطيور الهوجاء المتمرسة بالتراب والأجنحة الطرية.

وربما مثّلَ هذا الهاجسُ، أعني هاجس امتلاك الصوت الشخصيّ أو اللغة الخاصة، أكثرَ التحديات الشعرية جسامة. ولا أظن أن سعدي يوسف أو محمود درويش، مثلاً، قد وجدا سماواتٍ مفتوحةً أمامهما حتى نهاياتها الأخيرة. كان قد سبقهما إلى تلك الفضاءات العالية شعراء أثثوا ذاكرة القراء والنقاد بمكونات شخصياتهم الخاصة؛ بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، نزار قباني مثلاً. وليس من الصعب على الدارس أن يكتشف الكثير من أواصر القرابة في الحالات أو الأساليب أو الموضوعات بين هذين الشاعرين، سعدي ودرويش تحديداً، وبعض من ذكرت من الشعراء الذين سبقوهما في التحليق.

وسرعان ما اقتحم أدونيس مشهدنا الشعري وأربك الكثير من تفاصيله. كان شاعراً مختلفاً وشديد التأثير. وقد كانت لغته ذات إغراء خاص للشعراء الشباب بشكل خاصّ. ولا أبالغ في القول إن الإفلات من تأثيره كان صعباً، أحياناً، حتى على شاعرين موهوبين كسعدي ودرويش، لا سيما في أعمالهما الأولى. وبعد أن خفتت تدريجياً تأثيرات البياتي والسياب وقباني، انضم هذان الشاعران الموهوبان إلى أدونيس، فصنع هؤلاء الثلاثة الكبار خط التأثير الأول تقريباً في شعرنا العربي لفترة طويلة.

ولكن ماذا حلّ، في أيامنا العجيبة هذه، بهاجس التميّز والانفلات من قوة الجاذبية الشعرية التي يشكلها الشعراء المؤثرون في المشهد الشعريّ والتي كانت من أهم هواجس الشاعر المختلف، وأكثر البراهين سطوعاً على موهبته العصية على الذوبان في أصوات الآخرين؟

لا أحد تقريباً معنيّ بهذا البحث المضني عن التميز هذه الأيام. لقد باتت نصوصنا الشعرية، في الكثير منها تقريباً وكأنها، كما قال محمود درويش ذات يوم، قد كتبت من قبل شاعر واحد.

وربما وجد البعض تبريرهم المريح في دوامة المصطلحات الجديدة، عن شعر ما بعد الحداثة، الذي ينقلب على المرجعيات ويؤسس لشعر يتماثل مع واقع يعاني التشظي وانعدام الملامح والعبث وخفوت الروح. إن أهم ما يمتاز به شاعر ما بعد الحداثة، كما يقول أحد نقادها، جان ليوتار، هو رفضه لأيّ قواعد أو مرجعيات لأدبه أو فكره.

والشيء المثير للانتباه المؤلم أحياناً أن بعض النقاد قد يأخذون على الشاعر انتماءه الى ركنٍ شعريّ خاصٍّ به، وكأنّ عدم انتسابه إلى عوالم هؤلاء الشعراء، لغةً وموضوعاتٍ ونبرةً وأجواءً، اعتزالٌ لهذا المطلق الشعريّ، الذي لا جمال غيره، ولا شعرية تتحقق بعيداً عنه كما يرى هؤلاء النقاد.

لذلك يذهب هذا البعض خفافاً، بعد قراءة شاعرٍ ما إلى التحقيق في نسبه الشعري، لا بد من فحص جيناته الشعرية إذاً، ومن الضروري جداً أن يدلي الحمض النوويّ، أوالشعريّ بشهادته في هذا الصدد. فإذا كان هذا الشاعر خالصاً لذاته، أعني شاعراً دون آباء شعريين، هكذا وحيداً كنبتة شائكة لا يغسلها غير العراء والعزلة الحميمة، فإنه في عرف هذا البعض شاعرٌ مشكوكٌ في نسبه الشعريّ، شاعر خارج دائرة النبرات المهيمنة. هذا النسب الشعريّ هو ما ينشغل بملاحقته بعض النقاد، باعتباره مسوغاً للالتفات إلى هذا الصوت، وتتبع آثاره المؤدية إلى مضارب قبيلته الشعرية.

هل حمل هذا الشاعر شبهاً ما يذكّر بطيور الرخّ المهيبة؟ هل تُذكّر قصيدتُهُ بشعر أدونيس، أو محمود درويش، أو سعدي يوسف على سبيل المثال؟ وبغير هذا الشبه، كما يرى هؤلاء النقاد ربما، لا يؤكد الشاعر انتماءه إلى تلك السلالة الرفيعة، من حاملي شارات المجتمع الشعريّ المقدس، ولا يكون الشاعر شاعراً، كما يبدو، إلاّ بهذا الاقتراب الماحي للملامح الشعرية الخاصة!

وهذا يكشف، كما أرى، عن قصورٍ نقديٍّ جسيم. فمن السهل جداً أن أتحدث عن شاعر واضح النسب الشعري ّوذي سلالةٍ شعريةٍ معروفة، أن أستدلّ عليه لا بضوئه هو، بل بضوء شاعر سواه.

أما اكتشاف شاعر يفصح عن نبرةٍ مختلفة فأمر بالغ الصعوبة. لأنه شاعر يحاول أن يبني بيته الشعريّ الخاصّ بحجارةٍ يقتلعها من قاع روحه المتلظية، ويؤثثه بسهره ولغته وعذاباته الوفيرة، بيتًا قد لا يتسع لغيره، وقد لا يستسيغه آخرون. لكنه بيته هو: يضجّ بأنفاسه وحيرته، ويشفّ عن قصيدته التي لا تشير إلاّ إليه.

علي جعفر العلاق/العراق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى