نظرة تحليلية للمنظومة العلمية: بين التبعية والاستقلال الوطني

تهدف هذه الدراسة الي توضيح أبعاد المنظومة العلمية، واعطاء امثلة علي الطبيعة الديناميكية لعجلة العلم المتسارعة والتأكيد علي بديهيات متعلقة بالاقتصاد السياسي للعلم أهمها أن قوي الهيمنة الامبريالية والصهيونية تسعي لإعاقة نهضة حقيقية في دول العالم الثالث بما في ذلك العالم العربي ومن ثم فهذه القوي تضع العقبات لأي محاولات جادة في طريق التنمية المستقلة المعتمدة علي قاعدة وطنية علمية. ومن المنطقي أن هذه القوي ترتاح لغياب مشاريع جادة تسعي لنهضة علمية حقيقية في الدول العربية.

تشير الدراسة ان النهضة التي نسعي اليها تعتمد علي مقومات اساسية وشروط لابد من توافرها مجتمعة منها ارادة السلطة السياسية التي لابد من إعطاء اولوية قصوي ودعم مستمر لمشروع علمي رائد. تؤكد الدراسة علي فشل الجهد العلمي في اطار التبعية. وفي نهاية الدراسة تأكيد علي أهمية الثقافة والمنهج العلمي بالاضافة إلي إحياء الذاكرة الوطنية كرافدين هامين في مواجهة الفكر التكفيري والخرافات وكسلاح لمقاومة الارهاب.

1- ماذا نقصد بالنشاط العلمي؟

 نقصد نشاط مكثف في مجالات علمية محددة مرتبطة مباشرة بقضايا التنمية والأمن القومي، ومن ثم فهذا النشاط يقع علي عاتق قاعدة علمية وطنية. يكون هذا الجهد ضمن إطار استراتيجي معتمد علي اولويات مدروسة ومعايير واضحة متفق عليها من قبل القيادات السياسية والاقتصادية والعلمية في المجالات العلمية والتكنولوجية الحديثة المتقدمة.

لا نتحدث عن بحوث نمطية تقدم “للترقية” للباحثين والتي تعج بها مراكز البحوث والجامعات وإنما نتحدث عن بحوث اساسية تساهم حقيقة في المعرفة العلمية وتدعم البحوث التطبيقية المرتبطة بمجالات التنمية أو التي تستجيب لمشاكل الانتاج. الهدف هنا هو المعرفة وليست مجرد معلومات إضافية دون النظر إلي قيمتها الحقيقية في سياق مجتمعي وطني. نتحدث عن مدارس بحثية تدعم أسس الأمانة العلمية و تشجع الإبداع العلمي الخلاق  وتبحث عن الملكات العلمية النادرة وترعاها وتنميها.

ولا نتحدث عن تطوير او اصلاحات للمؤسسات البحثية القائمة فحسب وإنما  نتحدث عن مشروع رائد وطموح يتبناه بإرادة صلبة اصحاب القرار، نتحدث عن نشاط بعيد كل البعد عن الاعلام في مراحله الاولي؛ نتحدث عن مجهود لا يقل في جديته واستمراره عن المجهودات المتعلقة بالامن القومي. إن التقدم العلمي الذي ننشده يستند إلي حقيقة أن الاكتشافات العلمية أصبحت مصدرا رئيسيا للثروة وأنه يؤدي إلي تقدم فعال في مجالات صناعية هامة علي سبيل المثال الصناعات الدوائية وصناعة المواد الجديدة و المتعددة الأغراض والمرتبطة مباشرة برفع مستويات الصحة والمعيشة والأمن القومي.

نسعي أيضا  الي نشرالثقافة العلمية وترسيخ المنهج العلمي في التفكير كمكون أساسي للبحث العلمي وتأسيس قاعدة عريضة شعبية تعي أهمية الجهد والمال المبذول حتي وإن جاءت نتائجه لاحقاً. كما أن تعميم التفكير العلمي يمثل وسيلة ناجعة لمحاربة الفكر الارهابي والتكفيري والمعتمد علي الخرافة والاساطير.

2- ديناميكية البحث العلمي  عجلة العلم المتسارعة

 من المهم أن ندرك أن عجلة العلم عندما تتوفر لها العوامل الضرورية للإبداع تتسارع ويتضاعف انتاجها أحيانا في اتجاهات غير محسوبة أو متوقعة.

فعند اكتشاف الليزر مثلا، لم يكن أحد يتوقع تطبيقاته العديدة والهامة في كافة المجالات الصحية والعسكرية والهندسية بل البحث الأساسي نفسه، مما دعي إحدي الصحف الرئيسية في بوسطن عام 1961  إلي هذا العنوان ” الليزر:اكتشاف يبحث عن تطبيق”. أما الآن فنحتاج للعديد من الكتب لشرح التطبيقات المتعددة لليزر ولعل أهمها كأداة للبحث الأساسي.  هناك أمثلة أخري عديدة مثل الميكروسكوب الالكتروني والرنين المغناطيسي وScanning Tunneling Microscope والذي اهدته إيران الي لبنان في زيارة رسمية لرئيس وزرائها.

لم تجيء هذه الاكتشافات نتيجة لبحوث تطبيقية تهدف لعلاج الانفصال الشبكي في العين أو لعمل ميكروسكوبات لها قدرات تكبير أعظم ، إنما جاءت نتيجة الضرورة الملحة لمعرفة إجابات عن تساؤلات علمية محضة ولمعرفة سلوك الذرات والجزيئات وتفاعلها مع الضوء أو المجالات الكهربية أو المغناطيسية أو مؤثرات أخري  كان من الضروري لمعرفة الإجابة علي هذه التساؤلات أو لإثبات بعض النظريات أن نصمم أجهزة لمعرفة الحقيقة معمليا كدليل قاطع لصحة النظريات أو خطئها. فهذه الاكتشافات كانت بمثابة ناتج إضافي وليس هدفا بحد ذاته  فأصبحت وسيلة معملية جديدة لها تطبيقاتها العملية، وبالإضافة أصبحت أداة جديدة للبحث العلمي هكذا تتضاعف سرعة الاكتشافات العلمية التي تبهر الجميع ولا يصح مطلقا أن تكون أمتنا عربية بمنأي عنها إلا إذا استسلمنا للتخلف والتبعية.

3- الاقتصاد السياسي للمعرفة والعلم

  علي مرور التاريخ الانساني  لعب العلم دورا هاما والآن أصبحً دوره محوريا ومتصاعدا في كافة مجالات التنمية والأمن القومي والمسائل الإقتصادية ، فمن المنطقي أن يصبح العلم أداة فعالة،إما للإستقلال والتهضة والنمو والرخاء من جانب المهتمين بالوطن،أو أن يكون أداة للإستغلال والتبعية والهيمنة والقهر من قبل أعداء الوطن في الداخل والخارج.

تجدر الاشارةهنا إلي الصعوبة الخاصة التي تواجه تناول موضوع الاقتصاد السياسي للعلم في عالمنا العربي وذلك إلي تواضع مستوي الثقافة العلمية حتي في دوائر المفكرين العرب مما أدي إلي اغتراب ملحوظ من حيث المصطلحات والمفاهيم العلمية. ولقد أدي هذا إلي اغفال أو هامشية موضوع سياسة العلم في اصداراتنا وندواتنا ومؤتمراتنا التي تتناول المستقبل العربي وتحدياته. هذا جعل من السهل تقبل مفاهيم خاطئة مثل “حياد العلم” “العلم ليس له وطن” والخلط بين التعاون العلمي والتبعية وامكانية نهضة علمية في اطار اقتصاد غير منتج أو في اطار تبعية سياسية واقتصادية أو قياس التقدم العلمي بمقاييس زائفة كعدد الحاصلين علي الدكتوراه. يجيء هذا النقص رغم توفر العديد من الدراسات حول هذا الموضوع في الغرب وبعض دول العالم الثالث مثل الهند وكذلك في بعض دول أمريكا اللا تينية، وللأسف، وما عدا دراسات معدودة، خلت المكتبة العربية من دراسات مثل “الاقتصاد السياسي للعلم” أو”تسييس العلم” أو “العلم كأداة للمقاومة”او “سياسة العلم”.

ومما يزيد الأمور تعقيدا أنه في نفس الوقت الذي نفتقد فيه التناول الجاد لقضايا العلم ( ولعل ذلك نفسه سببا جوهريا) لا تكف الخطابات الرسمية عن التأكيد إعلاميا عن الأهمية الجوهرية للعلم، وكيف “اقتحمت” الدولة ميادين علمية متقدمة دون أن ينعكس هذا علي الواقع الملموس. كذلك نشأت ظاهرة خطيرة وهي الخلط بين الدين والعلم وانتشرت تفسيرات مفتعلة وغير صحيحة تتناسق بشكل زائف مع نظريات علمية بعد اكتشافها وليس قبلها، مما يعطي للبعض أننا لسنا في حاجة للبحث العلمي ومما يمنع الشعور بالتقصير.

من المستحيل تناول قضية العلم والتكنولوجيا بشكل واقعي دون توصيف البيئة الاجتماعية بخصوصيتها التاريخية وأبعادها السياسية والاقتصادية ( ينطبق هذا أيضا على أي جانب من جوانب التنمية)، فالعلم ليس منفصلا عن الإطار السياسي والاقتصادي ويخضع لعلاقات القوي السائدة في حقبة تاريخية محددة. هذه العلاقات تتمثل في مدي تحكم هذه القوي في الموارد المادية والبشرية، وعلي رأسها القدرات المعرفية في عصرنا هذا، ومن ثم أهداف القوي المهيمنة بالنسبة لأي نشاط سياسي  أو اقتصادي أو معرفي (علمي).

إن الأولويات الاقتصادية تقع في القلب من فلسفة السلطة السياسية وسلوكها نحو البحث العلمي، كما أنها تحدد بدرجة كبيرة بل وفاصلة ما إذا كان العلم والتكنولوجيا قضايا تنموية محورية أم لا. فالعلم يرتبط ارتباطا وثيقاً باحتياجات التقدم في مختلف قطاعات الإنتاج فى المجتمع. وهو ما يتطلب بدوره التزاما بالتنمية المعتمدة على الذات. وتجدر الإشارة بوضوح إلى أن ” الاقتصاد التجاري التابع ” لا يحتاج إلى بنية علمية وطنية متطورة، ولكنه يقترن بمظاهر من الدعاية العلمية،  والنشاط العلمي الذي يركز علي منح درجات علمية أيا كانت قيمتها وجدواها، وعقد مؤتمرات علمية  واتفاقات مع المجتمع العلمي الدولي، أغلبها يعمق التبعية العلمية والتكنولوجية والصحية. وهذا يسير جنباً إلى جنب مع سياسة الاستيراد غير المحدود للسلع الاستهلاكية والخبرة الأجنبية ومشاريع “تسليم مفتاح” والتي تجعلنا نغوص في مستنقع التبعية .

لا شك فى أننا نتناول قضية غاية في الأهمية، تقع أهميتها في ارتباطها العضوي والوثيق والمتفاعل مع مشروع تنمية طموح يحقق التقدم للوطن والرفاهية والمعيشة الكريمة للمواطنين. هذا المشروع بزخمه المطلوب لا زال غائباً ولم يتبلور بعد. لا يمكن بل من المستحيل أن يحقق أي مشروع في هذا المضمار أهدافه إلا إذا كان مستقلا وغير تابع، أي لا يخضع لأهواء وأولويات دول أخري. والاستقلال هنا لا يعني مطلقا عدم الاستفادة بخبرات أجنبية أو عدم التفاعل الجيد معها، ولكنه يعني أن هذا التفاعل لا بد وأن يكون في إطار الأولويات الوطنية وينبثق من قاعدة وطنية يقودها متخصصون في العديد من المجالات التنموية والعلمية.  في هذه الحالة فقط يمكن أن تقوم هذه القاعدة العلمية المحلية بانتقاء ما هو ضروري من الخبرات التي تخدم أولويات المشروع، والتي أقرتها المؤسسات الفاعلة الوطنية بناء علي مقاييس علمية معلنة، أي أن التفاعل يتم بشروط محلية صميمة، وليس من قبل  مجموعة مختارة من قبل فرد بناء علي مقاييس غامضة، ويسودها أجانب، وبعض العلميين العرب بالخارج، حتي لو كانوا عشرات من حاملي جوائز نوبل، أو المشاهير العرب الذين صنع الغرب نجوميتهم المستحقة أو الغير مستحقة في كافة المجالات. فالمبدأ الأساسي الواضح والذي لا يمكن تجاوزه هو أن أي مشروع تقدم علمي بأي دولة عربية، لا بد وأن ينطبق عليه نفس شروط التنمية الوطنية، وهي الاستقلالية، وعدم التبعية، وإخضاع المشروع بالكامل لأولويات وطنية محلية.

4- العلم كأداة للهيمنة الأجنبية

إن استخدام العلم والتكنولوجيا للإبهار ولتعميق التبعية وللإشعار بالدونية ليس جديدا، فطالما استعملته قوى تسعى إلى الهيمنة، ولكن الجديد أننا نساهم فى ذلك بوسائلنا الإعلامية والدعائية رغم أننا لم نساهم قيد أنملة فى الابتكارات العلمية والتكنولوجية، وأننا نحن مجرد مستوردين لها. والمحلل لأخبار العلم فى وسائل الإعلام يجد أمثلة عديدة على ذلك. وهكذا تتكرر محاولة نابليون لاستخدام العلم كأحد الوسائل لإخضاعنا منذ أكثر من قرن ونصف قرن مضت.

إن الغزو الفرنسى وضع حدا لمحاولات إعادة تنظيم مصر خصوصا فى المجال العسكرى، فقد استخدم المحتل الفرنسى العلم للتسخير والتغريب. فكما ذكر Bourrienne  أن فن السيطرة على البشر دائما كان جزءا لا يتجزأ من فن الحكم . ولم يكن هذا خافيا أبدا علي نابليون الذى استخدم كل فرصة لإبراز عظمة وتقدم فرنسا للمصريين فى الفنون والعلوم، مما جعله يدعو بعض الشيوخ المصريين كى يشاهدوا بعض التجارب الكيميائية التى يجريها العالم الفرنسى M. Berthollet .

أن هذا المشهد هو بلورة لاستخدام العلم كوسيلة لإبراز المستعمر (بكسر الميم) كقوة فذة لا تقهر ولتعميق الشعور بالدونية للمستعمر (بفتحة على الميم).

وقد قيل الكثير حول نشاط الفرنسيين الثقافى فى مصر والذى تجسد فى مجموعة “وصف مصر” ، ولكن بحوثهم العلمية كانت لمصلحة الأوروبيين وليس لتنوير الشعب المصرى . كما أن أعضاء “معهد مصر”  ““Institut d’Egypte الذى أقامه الفرنسيون، كانوا فرنسيين ولم تكن هناك عضوية للمصريين، ولم تكن هناك دراسات عربية إلا لمصلحة الفرنسيين أنفسهم. وبمجرد أن انسحب الجيش من مصر اختفى المعهد من الوجود. وبالطبع فتح المعهد لبعض الزائرين من المصريين مثل الجبرتى الذى زار المكتبة ومعامل البحث، وقد عبر عن زيارته بأنه ” رأى أشياء لا تفهمها عقول مثل عقولنا ” !! وتصبح هذه المقولة تجسيدا لمفهوم تغريب العلم . كما أن الجبرتى أثناء سنوات الاحتلال الفرنسى لا يعطينا وصفه المطول عن تاريخ العلماء المصريين كما كان يفعل ولكن يعطينا ملخصا للذين أعدمهم الفرنسيون أو الذين تركوا القاهرة.

أما الآن فتجئ المحاولة هذه المرة بأيد عربية ولكن الهدف والوسيلة واحدة وخطورة هذا الأمر تتركز فى نقطتين أساسيتين، أولهما: أن البعض يعتبر العلم والسياسة كيانين منفصلين، رغم ارتباطهما الوثيق وبالتالي غاب تناول المثقفين العرب لقضايا سياسة العلم. وثانيهما: أن تسخير العلم والتكنولوجيا من قبل الإدارة الأمريكية كأداة للهيمنة والاستغلال والابتزاز السياسى للدول العربية والذي يسميه ديكسون، Dixon “الإمبريالية المعرفية والعلمية”، تتصاعد وتيرته. وفى الوقت نفسه ستمنع الدول الرأسمالية الكبرى أنواعا من التكنولوجيا والمعرفة العلمية لأسباب تجارية احتكارية وأمنية وعسكرية، كما ستستغل دول العالم الثالث لتصدير تكنولوجيات غير متقدمة وملوثة للبيئة إليها.

ولقد جذب أنتباهى لهذا الموضوع محاضرة فى أوائل السبعينات بجامعة ولاية متشيجان التى كنت أعمل بها أستاذا للكيمياء الطبيعية فى ذلك الوقت. وكانت إحدى استنتاجات الأساسية للمحاضر ، (الذى كان يمثل الجمعية الكيمائية الأمريكية لذلك العام)، هى تصدير الصناعات التى تحتاج للطاقة والعمالة المتوسطة الكفاءة والملوثة للجو مثل صناعات الورق والأسمنت إلى الكويت والمكسيك. كانت المحاضرة نموذجا لجهود تقسيم العمل دوليا فى إطار العولمة، كما بدا واضحا الجانب العنصرى المقترن دائما بالتخطيط الإمبريالي فى مجالات العلم والتكنولوجيا. ولعل تدمير العراق وحصاره واحتلاله فى العقد السابق، وما تم من تهجير كفاءاته العلمية خارج البلاد واغتيال العديد مثال صارخ لممارسات اغتيال المعرفة من قبل الاستعمار والامبريالية. من بين هؤلاء د. عبد المنعم الأزميرلي (وهو أول دفعة 1960 بكلية العلوم بجامعة الإسكندرية)، وكان قياديا في المؤسسة العلمية العراقية، بعد احتلال العراق قتله الجيش الأمريكي بعد القبض عليه وتعذيبه الوحشي، وهو ما نشرت تفاصيله صحيفة الجارديان البريطانية عام  2004. لاننسي أيضا اغتيال د.يحي المشد من قبل الموساد ومؤخرا استهداف علميين سوريين ومنشئات علمية سورية. لعلنا نقارن ذلك “بتكريم” أحد العلميين المصريين بجائزة وولف الاسرائيلية والذي استلمها في الكنيست.

وحتى لا يتسرع البعض فى اعتبار هذا الحديث وكأنه جزء من التفكير التآمري، وهو نهج مفضل لدى المتآمرين أنفسهم، أود أن أبدى بعض الملاحظات الضرورية باختصار شديد، وعسى أن تتاح الفرصة لحديث مفصل لاحقا: إن الولايات المتحدة الأمريكية هى أكبر منتج للعلم فى العالم، وقد سمح لها ذلك أن

تنتزع امتيازات سياسية كبيرة، ولم يقتصر هذا على دول العالم الثالث بل شمل أيضا دولا صناعية ولكن بدرجة أقل. إن استخدام العلم فى السياسات الخارجية قد أدى إلى ازدياد تحكم الشركات العملاقة ودول الهيمنة، ولقد أدى هذا الازدياد الى تفاقم أحوال الدول النامية.

لقد عبر العديد من المسئولين الأمريكيين عن أهمية استخدام العلم كأداة للهيمنة ، ونسوق هنا بعض الأمثلة.  كان هنرى ناو، Henry Nau  الذى عمل كعضو في المجلس القومي الأمريكي خلال حكم الرئيس ريجان صريحا عندما اقترح

“أن ازدياد الاعتماد المتبادل في ظل العولمة  مكن الدول المتقدمة من استخدام مميزات منزلتها  العلمية المتفوقة وخبرتها التكنولوجية لفرض “شكل أكثر مواربة وأكثر شمولا للإمبريالية عن أي حقبة سابقة  في التاريخ”

وكان هنرى كيسنجرHenry Kissinger مستشار الأمن القومى للرئيس نيكسون شخصية محورية في محاولات دمج العلم في مجال السياسة الخارجية واستخدامه للاستفادة سياسيا من ثمرة التفوق العلمى الأمريكى. تقول دكسي لي  رئيسة هيئة الطاقة الذرية السابقة ورئيسة مكتب المحيطات والبيئة وشئون العلم: أن كيسنجر اعتبر ان القدرات العلمية هي بمثابة أوراق في اللعبة السياسية، بمعني ان تقول لدولة ما إذا فعلت ما أريد في مشكلة ما ستحصلين علي قدر من العلم والتكنولوجيا (طبعا بشروطي).

ولقد أكد هذا المفهوم صانعو القرار السياسى ألأمريكى بدءا من وليام كيسى،William Casey مساعد وزير الخارجية السابق، والذى عمل رئيسا للمخابرات المركزية الأمريكية بعد ذلك اذ يقول في حديث لمعهد البحوث الصناعية أنه ليس هناك عاملا يفوق أهمية دعم العلم لتغذية التكنولوجيا وتسخير ذلك لتمويل طريقنا في العالم. وأكد المفاهيم نفسها زبجنيو بريجنسكى،Zbignew Brzenski ،مستشار ألأمن القومى للرئيس كارتر، والذي شدد علي قيمة العلم والتكنولوجيا كأدوات للسياسة الأمريكية. ومثلهم ألكساندر هيجAlexander Haig  ،وزير الخارجية عام 1981، والذي قال”أن لب التنمية هو خلق ثروة إضافية وليس التوزيع الإنتقائى للثروة المتاحة حاليا من مكان إلى آخر فى هذا العالم”.

ثم نصل إلى المرحلة الحالية “مرحلة العولمة المعسكرة ” كما يطلق عليها سمير أمين عالم الاقتصاد السياسي المصري، والتى تتميز بالتهديد المباشر والإملاءات البعيدة تماما عن أى مواربات دبلوماسية. وبينما تفرض قوي الهيمنة علي الدول العربية التي تصرف البلايين لشراء السلاح  قيودا حرجة علي استعمالات هذا السلاح نجد أن من يوظف العلم والتكنولوجيا في إطار الاستقلال الوطني ينجح في تطوير بل تصنيع سلاح متقدم. إن اختراق طائرة موجهة من قبل حزب الله لأ جواء فلسطين المحتلة يعطي مثالا علي ذلك.

5- اجهاض محاولات علمية عربية جادة   

في عالمنا العربي قضت قوى الهيمنة علي محاولات جادة للتقدم العلمي والتكنولوجي مثل تجارب محمد علي وعبد الناصر وصدام حسين. حققت هذه التجارب رغم ما شابها من سلبيات انجازات في العديد من مجالات التنمية، ولكنها انتهت بهزائم عسكرية. وفي كل مرة كان نتاج الهزيمة هو إضعاف الجيش الوطني، وتقويض الصناعة الناشئة عبر ما سمي “سياسة الباب المفتوح،” (اتفاق التجارة الحرة ) والتي صاحبها إزالة التعريفة الجمركية، وتفكيك المصانع، ونفي علماء مصر إلى السودان والنوبة، وذلك بعد هزيمة إبراهيم باشا في سوريا، وتحطيم الأسطول البحري في معركة نوارين قبل ذلك. وكان نتاج حرب 1967 هو الانفتاح الاقتصادي والخصخصة ونزع سلاح سيناء وتدهور الجامعات والتعليم عموما. ولا ننسي اغتيال بعض العلماء الألمان المتخصصين في إنتاج الصواريخ. وفي العراق دمر الجيش واغتيل العديد من علماء العراق، و استهدفت المؤسسات الصناعية والزراعية، عدا مؤسسات إنتاج النفط مصدر الطاقة الضروري لقوي الهيمنة الغربية.

العلم والتكنولوجيا في إطار كامب دافيد

من المهم أن نقارن أوضاع النشاط المتعلق بالعلم والتكنولوجيا في حالات الاستقلال الوطني بنفس الأوضاع في إطار التبعية. هناك العديد من الأمثلة المؤلمة في إطار الانفتاح الاقتصادي بعد معاهدة كامب دافيد وهما وجهان لعملة واحدة. فمن استيراد مبيدات مسرطنة رغم أنها ممنوعة من الاستخدام في الدول المصدرة، ووسائل منع حمل ضارة بالصحة “الديبوبريفيرا”إلياختبارات غير قانونية لأدوية جديدة علي مرضي مصريين، ومحاولات دفن مواد مشعة وفضلات صناعية خطيرة في الصحراء الغربية، رغم أنه ممنوع دفنها في أوروبا. هذا بالإضافة إلي تصدير مواد غذائية ملوثة إشعاعيا بعد حادث تشرنوبل. إن المسئولية علي هذه الجرائم لا تقع فقط علي مؤسسات وأفراد في الدول الغربية إنما تقع وبدرجة أكبر علي مسئولين وأفراد محليين. نذكر أيضا جريمة استخدام فلاحين في البحيرة والفيوم كحيوانات تجارب، لمعرفة مدي كفاءة أحد أنواع المولاسكيسايدس التي تقتل قواقع البلهارسيا. كانت هذه الدراسة عام 1991من قبل مؤسسات أمريكية وبموافقة وتسهيلات وزارة الصحة التي زعمت أنها لن تعرض مصريين لهذه التجارب. كانت الرقابة علي المشروع مسئولية الجانب الأمريكي، فجاء ميجور من بمؤسسة طبية تابعة للجيش الأمريكي وهي USAMMDA . ساهم ثلاثة أطباء مصريين تابعين للنامرو NAMRU-3 والتي أنشئت أصلا بهدف دراسة الأمراض التي تشكل خطورة علي المحاربين الأمريكيين، وجاء هذا النشاط تحت شعار “التعاون العلمي”.  يطول الحديث عن تصدي علميين ومثقفين مصريين لهذه المحاولات و هنا نجد نماذج لكيفية استخدام المعرفة الكلية كأداة للمقاومة. من هذا المنطلق أيضاً نؤكد علي ضرورة إخضاع أي مشروع علمي للمناقشة والتقييم الشامل قبل قبوله والتصفيق له بل واهتباره حلماً، ودون دراية أو معرفة بتفاصيله وأهدافه.

مبعوثون أمريكيون لشئون العلم في دول العالم الثالث

أصبحت وسيلة إرسال مبعوثين لهم صفة الأممية أو الدولية لتحقيق أهداف قوي الهيمنة جزء مكمل لقيادات محلية تابعة مثل أمين جامعة الدول. أنتقل هذا الأسلوب لقطاعات اخري فشمل بالإضافة للمجال السياسي مجال التنمية والعلم. فأصبح للرئيس اوباما مبعوثا رسميا للشئون العلمية. هذا يذكرنا بزمن الاستعمار القديم لمصر عندما كان هناك وزراء أجانب يديرون الشئون المصرية صراحة. علينا بل واجبنا أن نتسائل: ما هي التكليفات والمهام المسندة إلي المبعوث الأمريكي في مصر ومبعوثين آخرين إلي العالم الإسلامي في مجال البحوث العلمية؟

أعلن الرئيس اوباما في إبريل 2009 قرارا بتعيين مبعوثين علميين “فوق العادة” Special Envoy للعالم الاسلامي بما في ذلك لعشرة دول شرق اوسطية. جاءت هذه التعينات لتنفيذ بعض ما جاء في خطاب أوباما بجامعة القاهرة عام  2009. كما ذكرت مجلة العلم الأمريكية “Science”.قام مبعوث أوباما في مصر د. أحمد زويل بمقابلات مع الوزراء والاكاديميين ورجال الاعمال لمحاولة بلورة نشاطات تعاون جديدة، بالإضافة إلي مجموعة عمل Task Force متوقع ان تقدم توصيات بالنسبة لمجالات تعاون علمي بين مصر والولايات المتحدة.  جاء الخبر بمجلة في يناير 2010.

وكما أكدنا سابقا فاننا أمام مشروع أمريكي يحدد لنا نشاطات تعاون علمي، يحدد أولوياته مبعوث من دولة أجنبية عدوانية.  علينا أن نتسائل لمن تقدم هذه التوصيات المطلوبة؟ وما هي الجهات المنوط بها تفعيل هذه التوصيات؟ بالطبع مسئولين أمريكيين في مؤسسات الدولة الأمريكية علي رأسها البيت الأبيض ووزارة الخارجية، ومؤسسات علمية أمريكية كالأكاديمية العلمية الوطنية، وبالتأكيد مؤسسات عسكرية واستخباراتية. هل يمكن أن نسمي هذه العلاقة “تعاونا”  خصوصا وأن المؤسسات العلمية المحلية غائبة ؟ هل نكون مغالين إذا قلنا أن هذا مشروع هيمنة في مجال العلم والتكنولوجيا خصوصا وأن من بين أولويات  مبعوث أوباما بمصر إقامة معهد للدراسات الاستراتيجية لتقييم المشاريع الاقتصادية!!!! ألا يرسل ذلك ومضات حمراء قوية وأصوات إنذار عالية؟

نحن لا نتحدث عن دولة عادية إنما عن الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الاستراتيجي للكيان الصهيوني والتي لم يكف رؤسائها سواء جمهوريين أم ديمقراطيين الإعلان والتأكيد علي أن الولايات المتحدة تضمن تفوق إسرائيل، ليس علي مصر وحدها، وإنما علي كافة الدول العربية. أعرف تماما كيف أن البعض يحلو له تناسي هذه الحقيقة، ولكن هذا هو الواقع الذي يحتم علينا أن نتساءل: هل سيكون التعاون المنشود في صالح مصر؟ هل سيعمق تبعية الدولة والمؤسسات المصرية بحيث تشمل الجانب العلمي بالإضافة للجوانب السياسية والاقتصادية؟ هل تتناقض هذه المشاريع الأجنبية مع

الأولويات المنشودة مصريا أم أنه يحرفنا عنها؟ ألم يقم الاستعمار البريطاني في السابق بمشروعات إجهاضية في مجال التعليم بمصر، ومحاولات لعرقلة جهود وطنية في مجال التعليم الجامعي؟ السؤال المنطقي ما هو البديل؟ ولكن السؤال الذي يجب أن يسبق هذا هو: ما هي المشاريع والبرامج المرفوضة؟ إن البديل الصحيح والصعب أيضا هو المسار المستقل. تتمثل صعوبة هذا المسار في أنه يتطلب أيضا مسارا سياسيا مستقلا. ماذا نفعل في المرحلة الآتية حتي تتبلور ظروف أفضل؟

الاجابة هى أولا: أن نمنع مشاريع نعرف مسبقا أنها تقودنا في اتجاه لا يخدم مصالحنا رغم المقولات الدعائية، ورغم تشجيع بعض المثقفين عن عدم معرفة أحيانا، وعدم مسئولية أحيانا أخري. وثانيا: أن نشجع ونؤيد محاولات وطنية علمية واعدة سواء كانت جماعية أوفردية، حتي لو كانت متواضعة الأهداف، بشرط أن تكون متناسقة مع المشروع العلمي الوطني غير المكتمل وليست متعارضة معه.

مشاريع علمية عربية في إطار التبعية

ان الظروف التي نمر بها والمشاكل التي نواجهها ليست لها خصوصية عربية، وهي ليست فريدة كما يظن البعض، ولقد مرت بها شعوب أخري من قبل، بل ان هناك نماذج معاصرة تخطت مثل هذه العقبات، وحققت نجاحات ملحوظة كالصين والهند وكوبا

جاء في كتاب زحلان  “العلم والسيادة التوقعات والامكانات في البلدان العربية” اصدار مايو 2012 نبذة عن محاولات من قبل قوي الهيمنة لفرض اولويات لا تتناسق مع الاولويات الوطنية.  ففي  أواخر عام  1952 اعلن الرئيس ايزنهاور في الامم المتحدة عن برنامج “الذرة من اجل السلام” كاداة “للتنمية والسلام”.  في هذا الاطار عرضت الولايات المتحدة علي الجامعة الامريكية ببيروت مفاعلا نوويا، وكان زحلان رئيسا لدائرة الفيزياء في تلك الجامعة، فرفض المشروع، وكان منطقه “أن المفاعل لن يمكن دائرة الفيزياء من اقامة نشاط مفيد، بالاضافة الي ذلك لم يكن في الدائرة من كان مهتما بالمشروع في ذلك الوقت، ولم يكن هناك اية توقعات ان يكون لبنان من الدول النووية في يوم من الايام.” كان لدينا مخططات محددة لتطوير بحوث في علم الاطياف …وفيزياء الحرارة المتدنية، والرنين المغناطيسي للالكترون والنواة وغير ذلك. طلبت الاموال المخصصة للمفاعل لشراء اجهزة يمكن ان تكون مفيدة لبرنامجنا…إلا ان عرضي رفض”. ليس غريبا ان يكون هذا موقف زحلان لكونه من العلميين العرب الذي ربط دائما بين العلم والسيادة الوطنية، والذي أصدر أول كتاب شامل حول “العلم في اسرائيل” منذ عقود. بالطبع لم يحصل زحلان علي جوائز لانجازاته العلمية والثقافية من إسرائيل أو أمريكا.

 مركز سيسامي بالأردن

جاء في كتاب زحلان أيضا :أنه تم “زرع تجهيزات بحث، وانشاء مركز بحث وتطوير دولي في الاردن”. ونقتبس من كتاب زحلان المعلومات التالية: لقد اقيم مركز السينكروترون للعلم التجريبي وتطبيقاته في الشرق الاوسط SESAME CENTER   في الاردن من قبل منظمات دولية. وكان حجر الاساس للمركز هبة كريمة (وفي نظري هبة خبيثة) لسينكروترون مستقدم من المانيا بقيمة 60 مليون دولار ……ومن المتوقع ان يوفر هذا المركز تسهيلات وتجهيزات ممتازة للبحوث في المواد وعلم الحياة الجزيئي، والاجهزة الالكتروميكانيكية ، والتصوير بالأشعة السينية وغيرها. وتشرف علي المركز بشكل رمزي مجموعة من الدول مشكلة من اسرائيل وتركيا وايران وباكستان وقبرص والسلطة الفلسطينية ودول عربية منها مصروالبحرين ( باختصار ووضوح الدول الداخلة في المشروع الشرق أوسطي الكبير). ذكر المؤلف ان السيدة رولي خلف وشركاؤها ناقشوا في مقالهم بالفاينانشيال تايمز عام 2011 فرضية ارتباط اغتيال اثنين من العلميين الايرانيين في إيران  بمشروع السينكرووترون  وهما مسعود علي محمدي وماجد شهرياري. بدأ العمل بالمركز عام 2007 في جامعة البلقاء في الاردن، واذا اعتبرنا تجاوزا أن المقياس الاساسي لنجاح المركز هو عدد الاوراق البحثية  فمن المدهش أنه نشر “ورقة عادية واحدة”، رغم أن العلميين المشاركين ناشطين في البحوث بمراكز أخري ورغم أن المشروع مضي عليه عشر سنوات من التخطيط والتنفيذ، وتكلف حوالي مائة مليون دولار.

وكما جاء علي لسان زحلان أن “النقص الأساسي في المشروع هو أنه لم يلب المنهج المعياري في إقامة مراكز البحث، إذ يكون المركز عادة ً نتيجة لمجهودات مجموعة من الباحثين العلميين الذين يسعون إلي دعم مشروعهم،..  فهم الذين يعرفون ماذا يريدون، ويخططون للتجارب التي يريدون إجراءها في المركز، تلك هي المنهجية العادية لاقامة مراكز بحوث.”

6- شروط أساسية لتأسيس منظومة علمية وتكنولوجية عربية

يمكننا الآن تحديد بعض المقومات الضرورية المسبقة، والتي لابد من توافرها مجتمعة لبناء منظومة علمية وتكنولوجية وطنية وهى:

  • الإرادة والعزيمة السياسية التى لا تكل، والتى تذلل كل العقبات مهما كانت كبيرة؛ هذا جانب محوري يتمثل في العزيمة والإرادة السياسية  لبناء نسق للعلم والتقانة، بغض النظر عن الصعوبات، والزمن المطلوب، والأعباء المالية.
  • مسار إقتصادى إجتماعى يحتاج ويعتمد علي منظومة علمية وتكنولوجية لتحقيق أولوياته؛
  • سياسة علمية مدروسة منبثقة من تعاون حقيقى بين مؤسسات البحث العلمى والتعليم بمستوياته المختلفة وقطاعات الإنتاج والخدمات المختلفة؛
  • تعاون مشترك وفعال مع دول العالم الثالث التى نجحت بدرجات مختلفة فى مجالى العلم والتكنولوجيا مثل الهند والصين وكوبا وإيران،
  • إدراك وفهم مجتمعي جيد لأولوية الاستثمار فى المجال العلمى والتكنولوجى؛ تعاون دولى مع الدول المتقدمة يهدف إلى تنمية القدرات المحلية وليس تعميق التبعية، شريطة أن القرار والتصور لابد أن يكون وطنيا. علينا أن نقتبس ما نشاء ولكن أن يكون نصب أعيننا الأولويات والمتطلبات المحلية، وألا نخضع هذه الأولويات للأهواء السياسية لمستشارين من دول أخري.
  • تطوير مثل هذا النسق يتطلب إنشاء بنية متضافرة من معاهد التعليم، بما فى ذلك التعليم العالي، والمراكز البحثية والمنظمات العلمية والمالية… الخ.

إنها عملية ديناميكية؛ ولا تنشأ ولا تتطور إلا عندما تتوفر لها الظروف الضرورية. كما توجد جوانب أخرى مترابطة لإقامة نسق جيد ومتكامل للعلم والتكنولوجيا، تشمل مسلك الحكومات ونهجها فيما يتعلق بكل من: المعرفة والتفكير الناقد، المعايير الموضوعية لاختيار القادة في ميدان العلم والتقانة، وفي أنشطة التنمية الاجتماعية ككل وتوفير الحرية الأكاديمية والسياسية التى تشمل كلا من الأساتذة والطلبة، واستقلال الجامعات ومعاهد البحث ونوعية وجودة التدريب المُقدم إلى الطلاب والباحثين.

إن فرص النجاح ضئيلة إذا لم نلتزم بالنظرة المتكاملة لدور العلم والتكنولوجيا فى العالم العربى. فكثيرا ما يتم توجيه النقاش نحو عناصر منفصلة مثل : نقص الأدوات في المنشآت البحثية، وتمويل السفر لحضور المؤتمرات الدولية، وعجز المكتبات، ومشكلات لجان الترقية، ونزيف العقول ونجاح العلماء العرب في الخارج، والدوريات المحلية، وأعباء التدريس، وفرص العمل للخريجين، والارتباط بالصناعات القائمة … الخ. وفي حين تمثل هذه العناصر أهمية داخل إطار تكاملي للتحليل، فإن تناول كل منها على حدة، أو مجموعة منها بصورة منعزلة، لا يمكن أن يشكل أساساً لصياغة برامج فعالة من أجل التغيير.

وفي واقع الأمر، فإن المعالجة المتفككة والمتفتتة لقضايا العلم، تحت شعار “إصلاح” الجامعات ومعاهد البحث، يمثل وهما للتقدم. وهو الأمر الذي قاد الدكتور  زحلان إلى وضع عنوان فرعي لكتابه الأخير حول العلم في العالم العربي هو: “تقدم من دون تغيير”، وإن كنت أفضل توصيفا أكثر دقة  وهو: “حركة دون تقدم”. إن نهجاً كلياً هو وحده الذي يمكن أن يكفل المزاوجة بين مختلف مكونات قضية العلم والتكنولوجيا. ويتناقض التصور الكلي بشدة مع منهج الحملات الدعائية لأنشطة تقدم وهمي تذكر أرقاما عن عدد الأساتذة أو عدد شهادات الدكتوراه الممنوحة، أو عدد المؤتمرات …الخ. وبإيجاز، لا غنى عن التقييم الكلي، خصوصا عند غياب نظام ونسق متكامل فى المجتمع بالنسبة للنشاط العلمى و التكنولوجى. إن سياسات الإصلاح غير الشاملة تصبح غير مثمرة في مثل هذا الوضع، ولا تقود إلى أي مساهمة ذات قيمة. وفي الواقع عادة ما تؤدي إلى إحباط العلميين الجادين وخيبة أملهم.

7- المنهج العلمي كسلاح مقاومة

إن تحدي قوي الهيمنة بكافة الوسائل يندرج تحت عنوان المقاومة فتبني مشروع علمي عربي وتخطي كافة العقبات الذاتية والأجنبية هو تحدي لقوي الهيمنة وعناصر التخلف الكامنة في مجتمعاتنا.

لا نعني بالثقافة العلمية تكرار حقائق علمية فقط وإنما غرس المنهج العلمي في التفكير الذي هو المنهج الموضوعي والمنطقي والذي هو سلاح فتاك ضد الأساطير والخرافات والتفكير المنحرف بكافة أنواعه. فالجامعة التي تدرس العلوم بمنهج دوجماتي هي مؤسسة تنشر الدوجماتية بما في ذلك الدوجماتية باسم الدين. ولهذا لا نندهش أن هذا النمط من التدريس يشكل واحد من عوامل انتشار أفكار الاسلام السياسي في كليات تدرس العلم ككليات الهندسة والعلوم والطب. إن المنهج العلمي المستند بالضرورة علي الموضوعية يبدد الأفكار المنحرفة والمتطرفة. لنا أن نتسال لمصلحة من غياب الثقافة العلمية التي تغيب عن معظم مثقفينا العرب ؟ أين البرامج الجذابة التي تنمي هذا الفكر؟ وهنا لا أتحدث عن برامج مملة تجمع معلومات علمية فمثل هذه البرامج تنفر المشاهد من العلم وتسحره وتغربه. بالطبع إني أتحدث عن الثقافة العلمية كرافد ثقافي مهم ولكن المطلوب هو نشر الثقافة بشكل متكامل الجامعة التي يحيط بها قوات الأمن والتي لا تسمح بمناقشات حرة ونشاطات مختلفة ليست جامعة في الواقع. ففي نفس الوقت مثل هذه الجامعة تسمح فقط بنشر الاساطير والخزعبلات وفكر ديني وهابي تكفيري. هكذا كنت اقول بجامعة الاسكندرية لسنوات طويلة. من المنطق أن نتوقع أن فكرا مماثلا بل أكثر تطرفا قد انتشر في المناطق الشعبية. لماذا نندهش الآن بعد اربعين عاما من انتشار التطرف؟ أليس هؤلاء، أو بعضهم علي الأقل، هم الذين رضعوا من هذا الفكر الذي أوصلهم إلي مراحل أولوية في مدرسة داعش ومثيلاتها. لا يمكن حرب الارهاب فقط بالمواجهة الأمنية (الضرورية) وإنما بالنشاط الثقافي المكثف والمتوازي مع تصفية الإرهاب. وبالطبع فإن العلاج الجذري لا بد أن يشمل أيضا معالجة الفقر والبطالة مهما أخذ من جهد ووقت.

8-  خاتمة

إن معالم التقدم والنهضة واضحة والعوامل المتكاملة لنجاحها في متناول أيدينا إذا دعمتها ارادة حديدية وبصيرة رائدة وكما نجحت الادارة السياسية و معظم الشعب السوري في مواجهة الارهاب وكسر شوكته في ظروف غاية في الصعوبة فان هذه الارادة والنظرة الواعية المستقبلية لا شك انها ستنجح أيضا في بلورة مسار يؤدي إلي نهضة معرفية وعلمية. لقد رفضت الدولة السورية الإملاءات الأجنبية التي أرادت قوي الهيمنة الثلاث فرضها خصوصا بعد احتلال العراق. صبرت سوريا وقاست وصمدت حتي اصبح الانتصار في الافق ولا اقلل من خطورة التربص والتآمر واستمراره ولكن الاصرار والمقاومة الصلبة واليقظة والاستعداد سيمكننا من اجهاض التامر وهزيمة المتآمرين.

* أستاذ الكيمياء الفيزيائية بجامعتي الإسكندرية وولاية ميشجان (سابقا)

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى