غرينبلت والتهويد
بقلم: عبد اللطيف مهنا
تحت ذات العنوان، هذا الذي تحت يافطته كان تحرُّك كافة مبعوثي الإدارات الأميركية المتعاقبة إلى فلسطين المحتلة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، هذه التي شهدت ما تم توافق اطرافه على تسميتها “المسيرة السلمية”، بمعنى محاولات إنهاء الصراع العربي الصهيوني، جاء قبل أيام جيسي غرينبلت موفد إدارة الرئيس دونالد ترامب إليها ولم يشذ في خطاه عن سابقيه…جاء وفق المعلن “لتبادل أفكار” مع كلٍ من تل أبيب ورام اللة “لتحريك العملية السلمية”.
عن مثل هذا التحريك، أو كنهه، تحدث نتنياهو خلال مؤتمر صحفي وأوجز، لكنه أفصح فأوضح، حين قال: ” نحن في خضَّم عملية متواصلة من الحديث والحوار الحقيقي الصادق بالمفهوم الإيجابي”، وهنا لا يخفى على أحد أنه يقصد بالصادق، الحوار ضمن ذاك المعهود المتبع والدائم تاريخياً من حوارات تتم ولا تنقطع بين الأميركان واسرائيلهم كحليفين تجمعهما علاقة لا يمكن وصفها بأقل من عضوية ، أو التي تنتهي عادةً وبشكل عام إلى حيث ذاك المفهوم الإيجابي الذي يفهمه ويعنيه نتنياهو.
إذا ما شئنا التفصيل فما من داع لأن نجهد أنفسنا أو نذهب بعيداً، لأننا نجد هذا “الإيجابي” في هذه المرة، أو بيت القصيد، متوفر خبره لدى صحيفة من صحفهم هي “هآرتس”، التي نقلت عن مصدر، أو بالأحرى، ما سُرِّب لها عن طريقه، ما مفاده: “نحن نبحث عن القاسم المشترك مع الأميركيين والذي يُمكِّن من بناء المستوطنات، وفي الوقت ذاته الدفع بعملية سياسية في مجالات كثيرة”.
حكاية “الدفع بعملية سياسية” هي ذات اللازمة التي ظللنا نسمعها مترافقةً مع كل ضجيج اعلامي يصحب عادةً التحرُّكات التي يقوم بها المبعوثون الأميركان، أو سواهم من الغربيين، إلى فلسطين المحتلة في جلِّ جولات بحثهم الدائم عن المشترك المتوفر عادةً بينهم وبين نتنياهو، لكنما القول ” في مجالات كثيرة” فمرسل وما من معنى له عملياً، اللهم إلا أمر واحد هو، عدم التوصُّل لمطلق حل يتنافى مع مفهوم نتنياهو المعلن للحل…المعلن لكنما المرفوض منه في حقيقة الأمر وليس فقط من بينت.
استمرار التهويد، أو الاستمرار في بناء وتوسعة المستعمرات، هو الثابت الذي لم يتزحزح المحتلون عنه وليسوا في وارد التخلي عنه، لأنه أُس استراتيجيتهم التاريخية والدائمة، ومنذ بدأ غزوهم لفلسطين في ظل الانتداب البريطاني وما دام كيانهم قائماً، وإنما كان يظل إلى جانبها دوماً دوام التحايل المشترك مع مختلف الإدارات الأميركية لإخراج عملية استمرارية هذه الاستراتيجية وتغطيتها. مثل هذا التحايل في قادم الأيام، أو في الحقبة الترامبوية لخَّصته “هآرتس” على الوجه التالي: “تناول أفكار لتحريك العملية السلمية مع الجانب الفلسطيني، مع التركيز بشكل خاص على التوصُّل لمعادلة بشأن مواصلة البناء الاستيطاني على نطاق أوسع مما تضمنته تفاهمات جورج بوش- اريئيل شارون العام 2004”.
…إذن المسألة التحاورية الراهنة بين الحليفين، التي تعنونها في هذه المرحلة مهمة جيسي غرينبلت الاستطلاعية، يحكمها التوجُّه صوب إرساء “تفاهمات على نطاق أوسع” بين المتحاورين الحليفين بشأن عملية تهويد أوسع منها أيام جورج بوش-شارون، إذ ترى تل أبيب أنه قد آن أوان استحقاقات هذه “التفاهمات الأوسع”، لاسيما وقد سنحت فرصتها بقدوم ترامب للبيت الأبيض، ويسهِّل منها أن إدارته لا ترى في الأساس بأساً في مبدأ هذه التوسعة، وإنما فقط ضرورة التحاور الثنائي بشأن مداها وإمكانية فرضها على الفلسطينيين وتغطيتها عربياً في آن…كل ما في الأمر هو أين تكون هذه التوسعة أو يجري البناء، أفي داخل المستعمرات أم يتعداه إلى خارجها مثلاً ؟!
كل ما سبق وأن نمي عن الإدارة الأميركية الجديدة، اسواء ابان الحملة الانتخابية أو بعد الفوز بها واستقرار الرئيس دونالد ترامب في المكتب البيضاوي، ثم ما تلى من اختياره لنوعية رجالات إدارته، ومنه، سفيره إلى تل أبيب مثلاً، ناهيك عن موقفه المعلن إبان حملته الانتخابية من نقل السفارة إلى القدس، والذي وإن خفت تداوله مؤقتاً الآن بيد أنه لا زال قائماً لأنه لم يتغيَّر، كلها أمور تشي سلفاً بمآل التوصُّل إلى تلك القواسم المشتركة التي ينشدها نتنياهو ويصفها ب”المفهوم الإيجابي بمعنى الكلمة”، أو وفق ما تبشِّر به “هآرتس”، أي تفاهمات ترامب نتنياهو!
الحركة التصفوية الأميركية الراهنة الرافعة لذات الشعار القديم الجديد “الدفع بعملية السلام”، والذي تواضع مع الزمن ليغدو “تحريك العملية السلمية”، وانتهى في سنواته الأخيرة إلى المحافظة على امتياز رعاية حالة انتظارالعودة إلى المفاوضات من أجل المفاوضات، والآن إلى مسعى واضح لتجديد شكل التغطية المستمرة لتهويد ما لم يهوَّد بعد من فلسطين…هذه الحركة في راهنها يمكن اختصارها في جملة واحدة وهى، محاولة إعادة أنتاج نسخة أكثر رداءة من كل ما سبقها من نسخ أميركية في عهد الإدارات السابقة لتغطية العملية التهويدية المستمرة…الأمر الذي ليس من السهل على رام الله، حتى ولو ارادته وبنت عليه كل اوهامها التسووية، قبوله، وهى إذ لم تفعل، أي رفضته، حُمِّلت وزر افشال تحرُّك التحريك الترامبوي “للعملية السلمية”، وهذا بالضبط جلَّ ما يريده نتنياهو…أما التهويد فمسألة مستمرة بتحريك أو من دونه.