هكذا تمكنت المخابرات المركزية الامريكية من شراء المفكرين اليساريين وتحويلهم الى مرتدين

النشاطات الاعتيادية لوكالة الاستخبارات المركزية تنحصر بجمع المعلومات عن الحكومات والشركات الأجنبية وتحليلها وتقييمها ومن ثم تقديمها لكبار صانعي السياسة الأميركية، إذ خصصت الحكومة الأميريكية أكبر ميزانية للوكالة المركزية من بين جميع أجهزة الاستخبارات الأخرى.

كما يذكر أن للوكالة تاريخ طويل من العمليات العسكرية والسياسية التي أحدثت انقلابات وتصفيات فردية وجماعية من خلال عمليات التجسس التي تقوم بها بشكل أساسي في جميع دول العالم.

عام 1985، كشفت الوكالة عن برنامج ممول تقدمه للعديد من دور النشر، لنشر الكتب المؤيدة لسياسات الولايات المتحدة، تحديدًا لتحويل الفكر العام باتجاه معين، وذلك للتعتيم على اتجاه فكري أخر لا تحبذ وجوده على الساحة. إضافة إلى ذلك، تقوم باستخدام شخصيات ذات اطلاع واسع وكفاءة عالية لتسويق أفكارها ومعتقداتها التي تخدم السياسة الأميركية.

الانطباع العام عند العالم، أن المفكرين وأصحاب الفكر الفلسفي لا يملكون تأثيرا حقيقيا على المسائل السياسية، و تبقى أبحاثهم ونظرياتهم حبرا على ورق. لكن وكالة الاستخبارات المركزية كان لها منظور أخر، واستخدمت هذه العقول المثقفة لزيادة من حجم انتشار فلسفة أو فكر معين وصنع عالم ذو أيديولوجية واحدة.

تخوض وكالة الاستبخارات حرب ثقافية فقد أنشئت مؤسسات كاملة ومكاتب في بلدان مختلفة، ليكون لها سلسلة متنوعة من الأنشطة الثقافية والفنية، فهي تنشر المجلات المهمة وتنظم مؤتمرات عالمية، وتنسق حفلات لتقديم جوائز ومنح لكل الواجهات الثقافية التي تخدم هدفها.

غريزة البقاء والحفاظ على المصالح الأميركية في العالم هو الدافع الذي جعل وكالة الاستخبارات تدرك القوة الثقافية وإمكانية تأثيرها على أيديولوجية العالم بطريقة سلمية وبنتائج مرضية للحكومة الأميركية.

أحد الدراسات التي تم تأليفها والتلاعب بها تحقيقًا لرغبات الوكالة هو بحث “فرنسا: ارتداد مفكري اليسار” ويقول إنه كان هناك توازن بين الايديولوجية اليسارية واليمنية في التاريخ الفكري الفرنسي، مشيرا أن تيار اليسار قد زاد انتشارا وتوسعا ما بعد الحرب العالمية الثانية، تلك الحقيقة التي تخالفها الوكالة لدور الشيوعيين في مقاومة الفاشيين وانتصارهم في الحرب ضدها، وبالرغم من أن اليمين فقد مصداقيته بسبب تورطه في حقول الموت النازية وأجندته المعادية للأجانب وللمساواة “بحسب وصف السي آي إيه”، فإن عملاء الوكالة قاموا بمحاولة إعادة اليمين منذ أوائل السبعينات.

شجع “المثقفون العملاء” التابعين للوكالة حركة “الانتلجنسيا” التي حولت تركيزها عن الولايات المتحدة إلى روسيا. وذلك ما أثار الاستياء من الستالينية والماركسية في الوسط اليساري، وأدى إلى انسحاب تدريجي للعديد من المفكرين المتطرفين، وابتعاد تدريجي عن الاشتراكية، في المقابل أطلق الأيديولوجيون في الوسط اليميني وهم الفلاسفة الجدد والمفكرين حملة إعلامية لتشويه الماركسية.

بينما كانت مؤسسات استخبارية أخرى تقوم بعمليات تجسس للإطاحة بقادة منتخبين ديمقراطيا، وتقدم تمويلات ومعلومات للأنظمة الفاشية الدكتاتورية وتدعم المؤسسات اليمنية، في المقابل قامت الاستخبارات المركزية الباريسية بجمع معلومات عن المصالح الأميركية في دفع العالم نحو الايديولوجية اليمنية، وردا على ذلك انتقد اليسار الإمبريالية الأميريكية بشكل علني بعد الحرب.

ما تقوم به الاستخبارات الأمريكية يوضح ملاحظتها القوية للطاقات الفكرية، وما تحمله عقولهم من قوة في التغيير والتأثير والتحويل وإلغاء وخلق فكر جديد يهيمن على العالم، لذلك على العالم الغافل لهذه النقطة أن يؤمن بقوة النظرية والمعرفة حتى لا يكون تابع ومناصر لسياستها. وبالرغم من أن فرنسا تملك مؤسسات ثقافية ومفكرين، إلا أن السي آي إيه عمل على إنتاج حقائق ونظريات بهدف التلاعب بالوعي العالمي.

أميركا كقوة عالمية لها مصلحة قوية في خلق جماعات ومنظمات ثقافية تحمل اتجاه فكري واحد وتعدم الجانب النقدي لها من خلال دعم المؤسسات القائمة على التجارة ومصالح تقنية بحجة سياسات حيادية كاذبة. والسلاح الأقوى هو دعم صوت الإعلام بأخبار وموجات فكرية وعزل التيار اليساري عن المنصات الأكاديمية والإعلامية والتشكيك بأي دعوة للمساواة الفكرية.

الاستراتيجية الأميركية روجت على أن كل ما يخص الثقافة اليسارية هو أفكار ونظريات لا قيمة معرفية لها، لذلك يجب على العالم أن يدرك أن المعارضة المتطرفة للفكر اليساري هي خطة أميركية للهيمنة على الفكر العالمي، وتحمل موقف سياسي متواطئ مباشرة مع أجهزة تابعة لـ “السي آي إيه” في أنحاء العالم.

راي كلاين الضابط السابق في مكتب الخدمات الاسترايجية، ونائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية بين عامي 1966-1962، قال أن الوكالة لها إسهامات فكرية كبيرة لإبراز الجماعات اليمنية المحافظة بهدف تعبئة القوى السياسية والرأي العام، دعما لجنوح الولايات المتحدة في السبيعنات نحو ممارسة سياسة القوة والتدخل بشؤون الدول في العالم.

ومع الوقت تحولت وكالة الاستخبارات إلى مركز أكاديمي هام بهدف التوجيه والتلاعب بالرأي العام. ومع تنامي إدراكها لما تملكه وسائل الإعلام من إمكانيات هائلة في التأثير على الجمهور، ورغبة منها في أن تزيد من التضليل الإعلامي الواسعن تسعى الوكالة لتوظيف عملائها في الصحف ودور النشر . كما أن للوكالة علاقات متعددة مع مجلات الرأي والفكر مثل “ببليك أوبيوين كومينتري ناشيونال” و “ناشيونال أنترست”. حيث ذكر أن أرفنغكريستول ناشر مجلة ناشيونال انترست، وأحد حاملي لواء الفكر اليميني الجديد في الولايات المتحدة، كان قد عمل في الخمسينات رئيسا لتحرير مجلة “انكاونتر” الشهيرة التي تمولها وكالة الاستخبارات المركزية.

ولا تنحصر علاقات الوكالة مع مجلات الرأي فقط. فقد أظهرت الدراسات التي أجريت في السبعينيات حول العلاقات التي تربط الوكالة ببقية وسائل الإعلام. فتبين أن الوكالة كانت في فترات مختلفة إما مالكة أو ممولة لأكثر من 50 صحيفة ووكالة أنباء ومحطة إذاعة.

ومنذ أوائل الخمسينيات قام عدد من دور النشر وبعضها من الدور المشهورة بإصدار 250 كتاباً بالإنكليزية كانت كلها من تمويل وإنتاج الوكالة بالإضافة إلى إصدار أكثر من 1000 مطبوعة باللغات الأخرى. ولتنفيذ مشاريعها هذه قامت وكالة الاستخبارات المركزية وعبر حملات خاصة بتجنيد مئات الصحفيين الذي حافظوا على مواقعهم الصحفية ولكنهم أصبحوا عملاء مأجورين لها. في حين عمل ضباط الوكالة في الخارج كمراسلين أو كمحررين من خارج الملاك في المؤسسات الصحفية التي تملكها الولايات المتحدة. ولم تتوقف وكالة الاستخبارات المركزية عن ممارسة هذه النشطات أبداً، بل هي على العكس قامت بتكثيفها.

ولقد تم تصميم هذا الاندماج التكاملي بين وسائل الإعلام وأجهزة الاستخبارات بهدف تضليل البلدان الأخرى وحرف توجهاتها نحو تأييد السياسات الأميركية. وفي الوقت ذاته يساعد هذا الشكل من الاندماج في السيطرة على الرأي العام المحلي والخارجي وتوجيهه وفق ما هو مطلوب داخل الولايات المتحدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى