لمحات عن حياة ونضال عربي عواد

بقلم: غطاس أبو عيطة*

بمناسبة الذكرى السنوية الثانية لرحيله

حاولنا في قيادة الحزب وعلى مدى أعوام، أن نسجّل ما اختزنته ذاكرة الرفيق القائد عربي عواد أمين عام حزبنا الشيوعي الفلسطيني- الثوري، لإدراكنا بأننا نسهم عبر ذلك في إثراء ملحمة الكفاح البطولية التي سطّرها شعبنا في مواجهة المشروع الاستعماري- الصهيوني، لكن الوقت مضى قبل أن نشرع في تنفيذ تلك المهمة، وعندما شرعنا في الأمر دهمتنا أحداث الأزمة التي اندلعت في سورية، وجرى اقتحام مخيم اليرموك حيث يقيم الرفيق وحيث يقوم مقر الحزب، من قبل أولئك الذين جعلوا من أنفسهم وقوداً للمشروع الأمريكي- الصهيوني الرامي إلى إعادة رسم خريطة المنطقة تحت مسمى الشرق الأوسط الجديد.
ومانحاوله الآن وقد مضى عامان على رحيل الرفيق، هو أن نسجل لمحات عن حياته ونضاله، علّ ذلك يسهم في إضافة مايمكن تسجيله عن تاريخ الحركة الشيوعية في فلسطين، التي شكّل الرفيق عربي عواد (أبو الفهد) أحد رموزها المفصليين وليس البارزين فحسب.

عن طفولة الرفيق وثورة عام 1936:

ولد الرفيق في بلدة سلفيت عام 1928، ويكون بذلك قد بلغ الثامنة من العمر. حين اندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، حيث كانت سلفيت أحد معاقل الثورة كامتداد لما سمي بجبل النار في منطقة نابلس، وعن هذه المرحلة الحافلة بالأحداث ظل يتذكّر الرفيق أسماء قادة الثورة وقصص بطولات ثوارها، وظل يذكر مداهمة الانجليز لأحد اجتماعات القادة الذي انعقد في بساتين بلدته، مما أدى إلى استشهاد عدد منهم ممن نُسجت حولهم الروايات الشعبية، بأن جثثهم لم يطلها الفساد حين أمكن دفنهم بعد أيام من استشهادهم، ومقابل الصورة المضيئة التي حملتها ذاكرة الرفيق عن تلك الفترة من تاريخ كفاح شعبنا، ظل يعود الرفيق إلى الصورة النقيض المتعلقة بدور ماسمي بفصائل السلام التي شكلها الإقطاعيون بتعاون مع المستعمر، والتي كان لها دوراً حاسماً إلى جانب الدور الذي لعبته النظم الرجعية العربية، في انحسار زخم الثورة وصولاً إلى دفنها، وقد ذكرنا في مناسبات سابقة، بأن النهج الثوري الذي ظل يكافح الرفيق على مدى تاريخ نضاله من أجل انتصاره في صفوف الشيوعيين الفلسطينيين، كان وثيق الارتباط وفق اعتقادنا بما اختزنته ذاكرة الرفيق، وبما استقر في وجدانه من أجواء تلك الثورة التي جسّدت مايملكه هذا الشعب من قدرة على العطاء دفاعاً عن وجوده، بوجه مشروع استعماري يسعى إلى اجتثاث هذا الوجود.

عن أيام الدراسة والتعرّف على الشيوعية:

تربّى الرفيق في كنف عمه بعد وفاة والده، وقد جرى تعيين عمه الشيخ أبو صلاح إماماً لمسجد بيت ساحور ذات الأغلبية المسيحية، وهكذا تربي الرفيق منذ مطلع صباه في بيئة اجتماعية اسهمت في اتساع افقه سيما وأن عمه الشيخ، كان نموذجاً لرجل الدين الذي يعكس بعمق التعايش بل الاندماج الذي ساد بين مكونات الشعب الفلسطيني.
لقد أحب الرفيق هذه البلدة بطبيعتها وانفتاح أبنائها، وبقي على تواصل مع مجتمعها طيلة أعوام تواجده على أرض الوطن، وظل يستقبل أبناءها بعد ذلك من الوافدين إلى لبنان وإلى سورية، ولعل ماجذب الرفيق إلى بيت ساحور هو أنها قد شكلت في حينه حاضنة للفكر التقدمي الشيوعي، كما كان الأمر بالنسبة لبلدة سلفيت، وسنذكر فيما بعد المكانة التي احتلها الرفيق بين أبناء البلدة حين كان يزورها كمناضل شيوعي بارز فيلتف من حوله شبان البلدة.
لقد أكمل الرفيق مرحلة دراسته الابتدائية في بيت ساحور بعد انتقاله إليها من سلفيت، وكان بذكر كيف تطوّع أبناء البلدة لبناء مدرسة بلدتهم الرسمية في منطقة المرج وجلّهم كانوا من العاملين في مهنة البناء، ودرس المرحلة المتوسطة في مدرسة بيت لحم الرسمية، وظل يذكر كيف كان يذهب كل يوم مع طلبة بيت ساحور سيراً على الأقدام إلى بيت لحم لتلقي الدراسة.
أما مرحلة الدراسة الثانوية للحصول على شهادة المترك فقد قضاها الرفيق في مدرسة الخليل الثانوية الداخلية، التي كانت تستقبل المتفوقين فقط من أبناء جنوب فلسطين، وفي هذه المرحلة تعرف الرفيق على الفكر الشيوعي عن طريق أساتذة متميزين من بينهم فؤاد خوري ابن حيفا، وجميل العصفور عبقري الرياضيات الساحوري، وفي هذه الفترة تعرّف الرفيق على فكر مخلص عمرو الذي كان من أبرز من أسهموا في تعريب الماركسية على ساحة فلسطين في تلك الفترة.
أما المرحلة الرابعة والأخيرة من أعوام دراسته، فقد قضاها الرفيق في الكلية الرشيدية بالقدس. وفي هذه المرحلة تعرف عبر التحركات الشعبية الدائبة الاشتعال في عاصمة فلسطين وحاضنة مقدساتها، على رموز بارزة من قادة العمل الوطني الفلسطيني، كما تعرف من بين اساتذة نابهين، على الأديب الفلسطيني الكبير جبرا ابراهيم جبرا، الذي كان استاذاً غير عادي، والذي عرّف طلبته على الموسيقى العالمية، حيث بقي الرفيق حتى الأعوام الأخيرة التي سبقت رحيل هذا المبدع الفلسطيني المتميز يقوم بزيارته كلما تسنى له زيارة بغداد.

عن أيام السجن والمعتقل:

تعرض الرفيق للاعتقال أول مرة في عام 1951 وكان يومها معلماً في بلدة بيت جالا، وذلك حين اتهمه مدير ناحية بيت لحم بأنه هو من كتب ووزع بيان الحزب في المنطقة، مثبتاً ذلك بشهادة زور تقدم بها خبير الخطوط، ومنذ انتفاضة حلف بغداد أواخر عام 1955، بات الرفيق ملاحقاً من قبل أجهزة الأمن، فكان يغير مكان سكنه باستمرار، وظل في تلك الأعوام مكلفاً بالأشراف على اصدار جريدة الحزب السرية، وخلال الحملة التي طالت الشيوعيين والوطنيين الآخرين في عام 1957، ضاعف الرفيق من أجراءات اختفائه عن عيون رجال الأمن لكنه تم القبض عليه عام 1958 وحكم بالسجن 16 عاماً بموجب قانون “مكافحة الشيوعية”، وأخلي سبيله من خلال العفو العام في نيسان عام 1965، ليعتقل مجدداً في العام التالي وليطلق سراحه قبل أيام من حرب حزيران عام 1967 التي أدت إلى سقوط بقية فلسطين بيد الصهاينة إلى جانب أراض عربية أخرى.
حين تعرفت إلى الرفيق في بيروت عقب ابعاده من قبل الاحتلال إلى حدود الأردن عام 1973، وإبعادي بعد ذلك بعام إلى حدود لبنان، لم يكن الرفيق يتطرق إلى ذكريات السجون والمعتقل الصحراوي كما كان يفعل رفاق آخرون ولا إلى دوره في قيادة التنظيم الحزبي في الضفة المحتلة وفي الإشراف على الجبهة الوطنية والجناح العسكري للجبهة، إذ كان قد انصرف إلى مرحلة جديدة من النضال كعضو في المجلس الوطني لمنظمة التحرير، وفي الجلس المركزي، وفي لجنة شؤون الوطن المحتل كممثل للحزب إلى جانب الفصائل الفلسطينية الأخرى.
لكن ماأود ذكره عن فترة السجن والاعتقال التي بلغت 11 عاماً إنما يتعلق بحادثتين رواهما الرفيق بصورة عابرة، إذ أنه بعد أعوام من حياة المعتقل في السجن الصحراوي تم إحضار الرفاق جميعاً إلى سجن عمان المركزي بهدف إخضاعهم لحملة جديدة من التحقيق والتعذيب على يد خبراء أجانب، علّ ذلك يضعف بعضهم إن لم يضعفهم جميعاً. وفي تلك الفترة انتبه الرفاق إلى أن الجهة المشرفة على الحملة قامت بتوزيعهم على زنازين ثنائية، ضم كل منها رفيق مسلم إلى جانب رفيق مسيحي، ولعلهم انطلقوا من حساب أن عدم الانسجام الذي قد ينشأ بين الرفاق من شأنه أن يضعف قدرتهم على الصمود.
أما الحادثة الثانية التي جرت في سياق تلك الحملة، فتمثلت بإحضار الرفيق إلى مكتب مدير السجن وكان إلى جانب ضابط أمن كبير يعرفه الرفيق، إمرأة شابة جرى تقديمها على أنها طبيبة تريد معاينة ما يعانيه من مشكلات صحية، لكن أحاديث المرأة التي اتسمت بالصفاقة والبذاءة، جعلت الرفيق يدرك أنها عاملة في جهاز المخابرات. ومضت الأعوام بعد تلك الحادثة إلى أن أتى من يخبر الرفيق بأن “طبيبته” المدعوة آن (أمينة) المفتي تقبع الآن في سجون الثورة في بيروت بتهمة انتمائها للموساد الصهيوني، وقد تم فيما بعد مبادلة هذه الجاسوسة مع الصهاينة مقابل أسيرين فلسطينيين.
لقد كانت صلابة الرفيق في السجون وفي غرف التعذيب مضرب مثل للجميع، وقد أسهمت زوجته كما زوجات وأمهات الرفاق الآخرين في تعزيز إرادة الصمود لديه، إذ كانت في كل زيارة للسجن، تقوم بتعرية من يشرفون على سجن وتعذيب الرفاق باعتبارهم يخدمون أعداء وطنهم. كما أعانته تلك الزوجة على تحمل شظف العيش خلال أعوام تفرُّغه الحزبي إذ كانت تسهم في تحسين دخل الأسرة، ومعروف أن زوجة الرفيق هي ابنة المناضل الفلسطيني فخري مرقة، الذي حكمه المستعمر بالإعدام إبان ثورة الـ36 قبل إبدال الحكم إلى السجن المؤبد.

ولادة وانقسام الحزب الشيوعي الفلسطيني:

لقد بقي الرفيق على مدى حياته الحزبية، مؤمناً بالنهج الذي عبّرت عنه عصبة التحرر الوطني بفلسطين التي تشكلت عام 1943، والتي قامت على أنقاض الحزب الشيوعي الذي ضم في صفوفه عرباً ومستوطنين يهود، وذلك بعد أن كشفت التجربة بأنه لايمكن التوفيق بين نضال الشعب الفلسطيني التحرري، ونضال المستوطن اليهودي ذي الطابع الطبقي الذي لايقوم على إدانة الغزو الاستيطاني اليهودي لفلسطين.
وناضل الرفيق داخل صفوف الحزب، ليتم تجاوز الخلل الذي وقع فيه الحزب تحت تأثير النكبة حين تخلى عن الهوية الوطنية الفلسطينية وعن الأساس التي قامت عليه العصبة وهي رفض قيام كيان صهيوني على أرض فلسطين يشكّل امتداداً عضوياً للقوى الاستعمارية الغربية.
وواصل الرفيق نضاله عقب حرب تشرين 1973، لكي تستعاد الهوية الوطنية للشيوعيين الفلسطينيين مع الحفاظ على الإرث النضالي المشترك مع الشيوعيين الأردنيين، وأن يستعاد في الوقت ذاته إرث العصبة الذي تم دفنه مع ولادة الحزب الشيوعي الأردني عام 1951. ولكن ماجرى طبخه (بعيداً عما أرساه الرفيق من واقع ثوري حزبي في الضفة والقطاع أولاً، ثم على الساحة اللبنانية والساحات العربية ومن ثم في أوساط الطلبة الشيوعيين في البلدان الاشتراكية)، قام على أساس التنكر للإرث النضالي المشترك مع الشعب الأردني، والتنكر لبرنامج العصبة، ثم على أساس شطب كل عضو في الحزب لايخضع لإملاءات القيادة التي تم تنصيبها على قمة الهرم الحزبي بدعم من المركز السوفييتي، وذلك ما عبرت عنه رسالة أمين عام الحزب الموجهة إلى الرفيق في نيسان عام 1982، والتي يعلمه فيها بأن زمن خروج الرفيق عن سياسة الحزب وممارسة رؤيته البرنامجية الخارجة على تلك السياسة قد انتهى، أي أن التعايش بين النهجين المتعارضين الذي استمر كأمر واقع أيام الحزب الشيوعي الأردني قد أصبح من الماضي في ظل قيادة ذهبت سريعاً نحو اصدار بيان مشترك مع الحزب الشيوعي الاسرائيلي، يؤكد على علاقات حسن الجوار بين الشعبين الصديقين الفلسطيني والاسرائيلي. ورداً على ذلك أعلن الرفيق من بيروت التي كانت تتهيأ لمواجهة الغزوة الأمريكية- الصهيونية تشكيل حزب فلسطيني يرفض الاعتراف بحق اسرائيل في الوجود، ويرفض التخلي عن حق الشعب الفلسطيني في ممارسة كل أشكال النضال بما فيها المقاومة المسلحة من أجل الحاق الهزيمة النهائية بالمشروع الصهيوني، وأطلق على هذا الحزب عبر مؤتمره الأول المنعقد عام 1987، اسم الحزب الشيوعي الفلسطيني- الثوري.

ملامح من شخصية الرفيق:

عاش الرفيق حياة منظمة مكنته من إنجاز الكثير عبر مسيرته الكفاحية، وأن يحافظ على حيويته وقدراته الجسدية بما مكنه من مواصلة دوره النضالي إلى أن تقدم به العمر.
وإن تنظيم حياته مكّنه من القراءة الجادة لساعات إلى جانب متابعة الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، ومكنه كذلك من صياغة رؤية بانورامية محددة الملامح في كل فترة حول مايجري في المنطقة والعالم ليقوم بعرضها في اجتماعات قيادة الحزب أوفي الأحاديث التي تدور في مكتب الحزب.
وكان دائب المبادرة إلى إطلاق مشاريع تثقيفية داخل صفوف الحزب وفي الساحة الوطنية، حيث تم على مدى أعوام، إصدار أعداد من الكراسات والكتيبات، وعقدت الكثير من الندوات، وذلك إلى جانب إشرافه على إصدار جريدة الحزب “المقاومة الشعبية”، ووضع برنامج الحزب السياسي وإصدار دراسة حول الخلفيات الفكرية للرؤية البرنامجية للحزب.
ورغم الحصار الذي ضرب من حول الحزب لخروجه عن إملاءات المركز السوفييتي، ثم نتيجة خلافه مع نهج القيادة الممسكة بالقرار الفلسطيني والتي مضت قدماً على طريق أوسلو عقب العدوان الصهيوني على لبنان عام 1982، فقد حافظ الحزب على حضوره الفاعل في الساحة الفلسطينية وعلى المستوى العربي والاقليمي، وذلك بالاستناد إلى تاريخ الرفيق النضالي.
لقد بدا الرفيق دائم الانشغال بالشأن العام كقائد سياسي، لكن ذلك لم يحرمه متعة مجالسة الناس البسطاء غير المتفرغين للسياسة، فكان يتقصى ظروف عملهم وشؤون حياتهم، وكانت متعته الكبرى لقاء العاملين في الأرض، ليسألهم عن المواسم الزراعية، وخاصة عن موسم الزيتون الذي كان الموسم الأساسي في بلدته سلفيت، وفي محيطها في شمال فلسطين.
ورغم نشاطاته السياسية وأسفاره وانشغالاته الثقافية، فقد حرص الرفيق على أداء واجباته تجاه الأسرة ولاسيما بالنسبة لتربية وتعليم أبنائه، وإلى جانب ذلك فقد كان الرفيق مثال القائد الصادق في إخلاصه لقضية شعبه ولقضايا أمته، وأمام استشهاد نجله الأكبر المهندس فهد، وفقد ابنته الشابة نجوى، بقي الرفيق متماسكاً، ولم تتراجع قدراته على العطاء.
وقد توفي الرفيق في الحادي والعشرين من آذار عام 2015 بعد أن أصيب بمرض عضال استفحل في جسده دون أن يكشفه الأطباء، وقد دفن في عمان بدل أن يدفن إلى جانب ابنه وابنته في مخيم اليرموك، وجرى تشييعه في موكب مهيب، وأقيمت له مجالس العزاء في الأردن وفلسطين وسورية وباقي الشتات الفلسطيني بمشاركة جميع القوى والأحزاب وكل من عايشوا واحترموا مسيرته الكفاحية.
ومع تقديرنا بأن كل ما يمكن تسجيله بشأن حياة ونضال الرفيق لايمكن أن يفيه حقه من التكريم، فإننا لعلى ثقة بأن شعبنا سوف يكمل ماكتبناه في هذا المجال وذلك حين يستحضر تاريخ قادته ممن عبّدوا طريق هزيمة المشروع الصهيوني.

* أمين سر قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني- الثوري

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى