الفرق بين التأمل والتفكر والتدبر

مصدر تأمل وهو مأخوذ من مادة (أم ل) التي تفيد معنيين:

الأول: التثبت والانتظار، والثاني: الحبل من الرمل ومن المعنى الأول قول الخليل: الأمل الرجاء تقول أملته أؤمله تأميلا، وأملته آمله أملا وإملة على بناء جلسة، وهذا لما فيه من الانتظار.

والتأمل: التثبت في النظر، قال الشاعر (زهير) :

تأمل خليلي هل ترى من ظعائن … تحملن بالعلياء من فوق جرثم وقال المرار:

تأمل ما تقول وكنت قدما … قطاميا تأمله قليل القطامي الصقر وهو يكتفي بنظرة واحدة.

وقال ابن منظور: (يقال) تأملت الشيء أي نظرت إليه متثبتا له، وتأمل الرجل: تثبت في الأمر والنظر.

التأمل اصطلاحا

هو تدقيق النظر في الكائنات بغرض الاتعاظ والتذكر، وقال الكفوي:

التأمل هو استعمال الفكر، ونقل عن بعض الأفاضل: أن قولهم: تأمل بلا فاء إشارة إلى الجواب القوي، وبالفاء إلى الجواب الضعيف وبالفاء واللام (فليتأمل) إلى الجواب الأضعف قال: ومعنى «تأمل» :

أن في هذا المحل دقة، ومعنى «فتأمل» أن في هذا المحل أمرا زائدا على الدقة بتفصيل، ومعنى «فليتأمل» ، هكذا مع زيادة اللام والفاء، أي تأمل ما سبق مع زيادة في الدقة، بناء على أن كثرة الحروف تدل على كثرة في المعنى.

تأمل القرآن

قال ابن القيم: أما التأمل في القرآن فهو تحديق ناظر القلب إلى معانيه. وجمع الفكر على تدبره وتعقله. وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر، قال الله تعالى كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب (ص/ 29) .

فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل فيه وجمع الفكر على معاني آياته.

فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما، ومال أهلهما، وتضع في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة. وتثبت قواعد الإيمان في قلبه.

وتشيد بنيانه، وتوطد أركانه. وتريه صورة الدنيا والاخرة، والجنة والنار في قلبه.

وتحضره بين الأمم وتريه أيام الله فيهم. وتبصره مواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله. وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها.

وتعرفه النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصححاتها وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم.

ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه. وافتراقهم فيما يفترقون فيه.

وبالجملة تعرفه الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه.

وتعرفه مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.

فهذه ستة أمور ضروري للعبد معرفتها، ومشاهدتها ومطالعتها. فتشهده الاخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه العالم، فتريه الحق حقا، والباطل باطلا، وتعطيه فرقانا ونورا يفرق به بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، وتعطيه قوة في قلبه، وحياة وسعة وانشراحا وبهجة وسرورا. فيصير في شأن والناس في شأن آخر.

بين التأمل والتفكر والتدبر

قد يظن المرء للوهلة الأولى أن هذه الصفات الثلاثة مترادفة أي أنها ذات معنى واحد، ولكن لا يلبث هذا الظن أن يتلاشى عند التحقيق العلمي؛ لأن بينها فروقا دقيقة تحتم أن نجعلها صفات مستقلة، فالتأمل في أصل اللغة مأخوذ من مادة (أم ل) التي تدل على التثبت. والانتظار، والتفكر مأخوذ من مادة (ف ك ر) التي تدل على تردد القلب في الشيء، أما التدبر فمأخوذ من مادة (د ب ر) التي يقصد بها النظر في عواقب الأمور.

ومن الناحية الاصطلاحية نجد التفكر يشير إلى جولان الفكرة وهي القوة المطرقة للعلم بحسب نظر العقل وذلك للإنسان دون الحيوان كما يقول الراغب ، ولا يقال هذا إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب، ولهذا روي: «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله» .

وقد عرفه الجرجاني بأنه تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب ، ونقل عن بعضهم: أن الفكر مقلوب عن الفرك، لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى الحقيقة، أما الفرك فيكون في الأمور الحسية لا المعنوية، وهذا دليل على ما ذهب إليه فقهاء اللغة العربية من دوران المادة حول معنى (عام) واحد، مع اختلاف في التفاصيل ولا يشترط في التفكر إدامة النظر ولا أن يتجاوز الحاضر إلى ما يئول إليه الشيء مستقبلا. أما التأمل فقد روعي فيه إدامة النظر والتثبت إذ جاء في تعريفه أنه «تدقيق النظر في الكائنات بغرض الاتعاظ والتذكر أي إنه قد روعي إدامة الفكر واستمراريته ومن ثم فلا تكون النظرةالواحدة تأملا وإن كان يمكن أن تكون من قبيل التفكر.

وإذا انتقلنا إلى التدبر وجدناه يعني (اصطلاحا) النظر في عواقب الأمور وما تصير إليه الأشياء أي إنه يتجاوز الحاضر إلى المستقبل لأن التدبر يعني التفكير في دبر الأمور ومن ثم عرفه الجرجاني بأنه عبارة عن النظر في عواقب الأمور، وكل من التدبر والتفكر من عمل القلب وحده إلا أن التفكر تصرف القلب بالنظر في الدليل والتدبر تصرفه بالنظر في العواقب، وكلاهما لا يشترط فيه الديمومة أو الاستمرار بخلاف التأمل، وهناك فرق جوهري آخر بين التأمل وكل من التفكر والتدبر يتمثل في أن التأمل قد يحدث بالبصر وحده أو بالبصر يعقبه التفكر، أما التفكر والتدبر فبالبصيرة وحدها إذ هما من أعمال القلب (أو العقل) .

والخلاصة أن التأمل قد يكون بالبصر مع استمرار وتأن يؤدي إلى استخلاص العبرة، وأن التفكر جولان الفكر في الأمر الذي تكون له صورة عقلية عن طريق الدليل. أما التدبر؛ فإنه يعني النظر العقلي إلى عواقب الأمور.

وهكذا رأينا أن هذه المعاني الثلاثة وإن كانت متقاربة إلا أنها ليست واحدة وإذا ذكر بعض أهل العلم أنها مترادفة فإنما يقصد فقط الترادف الجزئي الذي قد يوجد في بعض الأحيان دون بعضها الاخر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى