المثقَّف الفدائي…وتقرير شابيرا!

استوقفني في الاسبوع المنصرم حدثان ربما بدا للكثيرين أنهما منفصلان، لكنني لم أجد ما يصرفني عن التفكُّر ملياً فيما قد يربط بينهما. إنهما تقرير مراقب الدولة في الكيان الغاصب يوسيف شابيرا حول القصور الذي اعترى أداء جيشه إبان الحرب العدوانية الثالثة على غزة عام 2014، التي تؤشر هذه الأيام على أنها لن تكون الأخيرة، واستشهاد المناضل المطارد باسل الأعرج، وهو يواجه بفدائيةٍ عُرف بها قتلة “فرقة يمام” الاحتلالية الخاصة بتنفيذ الإعدامات الميدانية بحق المناضلين الفلسطينيين في مدينة البيرة، التي اصبحت الآن جزءاً من مدينة رام اللة…من لايرى رابطاً بين هذين الحدثين سوف يواجهني بمنطق فحواه:
بالنسبة لتقرير شابيرا، فالأمر لا يخرج عن تقليد عند هذا العدو ودرج عليه، وهو مسارعته لتشكيل لجنة تحقيق تعقب كل حالة اخفاق لجيشه في مطلق حرب عدوانية لا تأتيه بأكلها من تلك التي يشنها عادةً على العرب، والهدف الرئيس عنده من ذلك هو تلمُّس أسباب تعثُّر استهدافات ذاك العدوان، بغية استخلاص الدروس لتجنُّب تكرار مسببات الفشل في مرات لاحقة، ومن بعده تأتي مسألة محاسبة من يتحمَّل تعثُّرها. مثلاً، حدث مثل هذا عقب آخر الحروب مع الجيوش العربية عام 1973، وفشل حربه على المقاومة اللبنانية العام 2006…من منا لايذكر لجنة “اغرانات” مثلاً. يضاف إليه، أن هكذا تقاريرسرعان ما تدخل بازار المنافسات والمزايدات والمناكفات بين رموز وقوى المستوى السياسي والعسكري في هذا الكيان، وعليه، يطول أمد علك أصدائها فيه.
أما بالنسبة لاستشهاد فتى قرية “الولجة”، الشهيد البطل باسل الأعرج، وهو يواجه مطبقاً نظريته حول “القتال الفردي” ترسانة عدوه بما ملكت يمينه من سلاح فردي حتى ارتقائه سنام الخلود في “البيرة”، فهذه باتت من يوميات الفلسطيني، لاسيما في زمن “انتفاضة الفدائيين”. وأيضاً من يوميات السياسة الاحتلالية التي تطارد المقاومين وتصفّيهم عبر الاعدامات الميدانية آن تمكنت من ذلك. يشجِّعها على ذلك حالتان، فلسطينية وعربية، تسمحان به، وثالثة دولية تغطي عليه وتعصم القتلة حتى من مجرَّد اللوم، ولا نقول الإدانة…كله صحيح، لكنما طبيعة عدونا تجيز ربطاً بين الحدثين وفي مسألتين:
أولاهما، أن التقرير، والذي لم يقدِّم في هذه المرة توصيات، وأثره حتى الآن القضاء على المستقبل السياسي لجنرالين هما وزير الحرب السابق موشيه يعلون، ورئيس الأركان إبان الحرب بني غاتس، وخروج نتنياهو وليبرمان منه بأقل الخسائر، ورابحه الوحيد نفتالي بينت، نرى أن أهم نتائجه كانت فيما خلقه من جدل بات الآن سيد لحظتهم، وافضى بهم لاستخلاصات قضَّت مضاجعهم، جوهرها عجز منظومتهم العسكرية والأمنية الهائلة، والتي يعتدون بها، في مواجهة مقاومة محاصرة ومستفرد بها كما لم يسبق وأن أُستفرد بمقاومة عبر التاريخ، وتحيط بها ظروف موضوعية بلغت من السوء ماً يجل عن الوصف، ناهيك عن عدم التكافؤ الصفري المعروف، الأمر الذي يعني للمستخلصين اتضاح هشاشة كيانهم المُفتعل مهما بلغ من القوة، باتضاح أن أول ما يطرحه انعدام التكافؤ مع القدرة الغازية على الشعوب المناضلة من  تحديات مصيرية هو ذاته ما يدفعها لأن تنتج، وبالضرورة، المذهل من الابتكارات النضالية المبدعة والمفاجئة…كان سيد استخلاصاتهم التي حباهم به تقرير شابيرا، هو أن الأنفاق وحدها قد غيَّرت قواعد الاشتباك، وترقى إلى مستوى الخطر الاستراتيجي…
ما ارعبهم هو ما تصفه مصادرهم ب”تحقيق مفهوم المقاومة”، ويعنون رسوخ ثقافتها لدى شعب عُرف بها، ولم يكتموا ذهولاً وانشداهاً أزاء عناد شعب جعلت منه التحديات الوجودية المحيقة صانعاً مبدعاً لأدواته ومفاجأاته النضالية، المستندة إلى تراكم كفاحي عمَّده صمود اسطوري، يغترف من معين إيمان لا يحد بالتضحية كقيمة وطنية من أجل وطن لابد وأن يحرر ويستعاد كاملاً والعودة لكامله…
يقولون مثلاً: لقد “توقَّف كل شيء في غزة، إلا حفر الأنفاق، الذي يستمر العمل فيه على مدار الساعة، وبدون توُّقف بالمرة”…وهنا نأتي إلى ثانيتهما، إلى الشهيد القائد، والمثقَّف العضوي والفدائي المشتبك مع عدوه الذي ما انفك يقاومه، رافضاً مهادنته ومن هادنوه…من عُرف بمنظِّر “القتال الفردي”، والمقاومة الفطرية”، والقائل: “كل ما تدفعه في المقاومة، إذا لم تحصده في حياتك ستحصل عليه لاحقاً. المقاومة جدوى مستمرة”…إلى الشهيد باسل الأعرج، الذي سبق وأن جرح بسلاح شرطة السلطة، ومن اعتقلته مع رفاقه وافرجت عنهم بعد ستة اشهرلأضرابهم المعروف عن الطعام ليعتقلهم الاحتلال ما عداه، إذ اختط بدمه الزكي الطهور في “البيره” خارطة العودة، وعَّدل بفدائيته البوصلة الهادية إلى ذات الدرب المفضية إليها، هذه التي عبَّدها من سبقه من أبرار لم تنقطع قوافلهم وامتدت لقرابة قرن مضى…وإذا كانت الفلسطنة ليست زمرة دم وإنما هوية نضالية، فإنه لا من مستحق لأن ينسب إليها إلا من سار على ذات الدرب النضالية ولم يلتفت…
…ترجَّل باسل “الولجة” تاركاً وصيَّته التي مارسها لمن يلتقطون الراية وهم سيل لا ينضب:
“لا تعتد رؤية الصهيوني، حتى لا تألفها عينك قبل عقلك، بل افعل ما يفعله ابناء غزة حينما يشاهدون صهيونياً، يركضون باحثين عن حجر لرجمه به”…لذا حرصوا على إعدامه ميدانياً واردوه وهو يقاومهم، فجاز لنا أن نربط بين استشهاده واستخلاصات تقرير شابيرا.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى