دعوة مخلصة لإعادة صياغة الفكر القومي

لا نريد للفكر العربي أن يتحول إلى ساحة للنواح والعويل على واقع عربي يدعو للأسف، ولكننا نريد فكرًا عربيًا جديدًا يسعى لمعالجة الواقع ولا يسعى لتكريسه.

إن مراجعة الفكر العربي في هذه المرحلة تظهر أن قسمًا كبيرًا منه قد انحرف دون أن يدري إلى تكريس الواقع واستجابة لدواعي الفتنة التي زرعها المشروع الصهيوني – الأمريكي.

في ضوء ما تقدم فإن إعادة صياغة الفكر القومي العربي يجب أن تمر عبر نوع التحليل المتعمق للواقع العربي وبعد رصد دقيق لأزمة العقل العربي التي أنتجت هذا الرصيد المتناقض وغير المنطقي في الفكر العربي.

على أن إعادة الصياغة يجب أن تتم على أساس المؤشرات الستة التالية وهي في الواقع ركائز رئيسية لا تستطيع إعادة الصياغة أن تغفلها:

الركيزة الأولى: هي الإيمان المطلق بأن الأمة العربية حقيقة اجتماعية وثقافية وسياسية، وأنها ليست فقط حقيقة تاريخية أو حقيقة فلسفية، ولسنا بحاجة إلى التأكيد على أن العروبة ثقافة وليست عرقًا أو عنصرًا، وأن القول «من تحدث العربية فهو عربي» كان قولاً مصيبًا.

ولذلك فإن كل المشروعات الهادفة إلى القضاء على العروبة كانت تعنى بالقضاء على اللغة العربية لأنها وعاء العقل العربي فإن استقامت اللغة استقام العقل، وإن ضلت اللغة ضل هذا العقل.

وأريد أن أنّبه إلى أن اندحار اللغة العربية هو عرض لانحطاط الأمة وأن إنهاض اللغة العربية لا ينهض الأمة، ولكن الأمة تنهض بمواقع جوهرية فتنهض معها اللغة ويستقيم معها الفكر، وقد مضى الزمن الذي كانت فيه الأمة العربية شعارًا يستخدمه الساسة للمتاجرة واستدرار العطف واستغلال مشاعر العامة، وقد رصدت الدراسات الغربية في تحليل المضمون لمصطلح الأمة في خطب الزعماء العرب أن المصطلح شغل نسبة عالية تفوق نصف الخطاب وإن لوحظ أن استخدام المصطلح قد بدا يخفت تدريجيًا خاصة بعد انكسار المشروع الناصري عام 1967، ولابد أن نعيد اكتشاف حقيقة الأمة العربية وأن نلحظ في ثقة أن تردي الواقع العربي طوال الأربعين عامًا الماضية قد أثمر بشكل إيجابي وأنضج الوعي العربي فضلاً عما أحدثته العولمة في هذا الوعي من قفزات هائلة .

وفي إطار إعادة اكتشاف الأمة العربية لابد أن نلاحظ أن هذه الأمة قائمة منذ 14 قرنًا وإن كان العرب كعرق كانت قائمة منذ آلاف السنين فليس صحيحًا أن العرب صاروا أمة واحدة بعد ظهور القومية العربية في القرن التاسع عشر، وإنما الصحيح هو أن الإعلان عن هذه القومية كان محاولة للمحافظة على هوية الأمة ضد محاولات طمس هذه الهوية سواء من جانب الاستعمار التركي أو الاستعمار الأوربي.

الركيزة الثانية: العلاقة بين القومية والوحدة.

فمن الملاحظ أن أوربا تتوحد بلا قومية والعالم العربي يتفتت بالرغم من وجود القومية. ومن الملاحظ أيضًا أن القومية التي بشر بها المسيحيون العرب في البداية قد استندت إلى إحياء اللغة العربية وهي المدخل الذي التقى عليه المسلمون والمسيحيون من أبناء العروبة. كما يلاحظ ثالثًا أن القومية في أوربا كانت تهدف إلى توحيد الأمة في دولة ولذلك افترضت القومية العربية أن الأمة العربية الواحدة قد فتتها الاستعمار، وأن توحيدها هو هدف القومية على غرار ما حدث في الدول الأوربية .

وليس معقولاً أن تظل الأمة بلا دولة بل مفتتة بين عدد من الدول المتناحرة، فأعضاء الجسد الواحد يجب أن يخضعوا لمركز واحد وإدارة واحدة وهذا المفهوم هو الذي أدى إلى تشتت الفكر القومي العربي حول أولويات العمل العربي حتى انكسار المشروع الناصري.

ولعل سجل محاولات الوحدة هو الذي جعلها سيئة السمعة ولكن ذلك يجب ألا يصرفنا عن أن القومية هي الروح الذي تحرك وحدة الأعضاء ولكني أرى أن الوحدة في هذه المرحلة وفلسفتها وأدواتها وصورتها لا يجوز أن تستند مطلقًا لتجارب الماضي، ولكن مشروع النهضة العربية الذي ندعو إليه يقوم على استكمال مقومات النهضة قبل أن نحفل بوحدة شكلية تقفز فوق الفجوات فتسبب انفجارًا للجسم العربي.

الركيزة الثالثة: هي علاقة القومية العربية بالإسلام.

لا يتسع المقام لرصد المعارك الضخمة والتي انشغل بها العالم العربي بين القوميين والإسلاميين إلى حد اتهام كل منهما الآخر بما لا يجوز التذكير به. ولكن المشروع الذي ندعو إليه يقوم على أساس العلاقة العضوية بين العروبة والإسلام، وهذا ليس ابتداعًا ولا إعادة اكتشاف لحقيقة سبق أن أكدها رواد الفكر القومي، وخاصة من البعثيين حيث ذكر ميشيل عفلق صراحة عام 1943 أن العروبة جسد والإسلام روح وإن انفصل أحدهما عن الآخر سقط الروح والجسد، فالعروبة وعاء والإسلام هو القوة المحركة لهذا الوعاء.

ولسنا بحاجة إلى أن نشير إثباتًَا لهذه الحقيقة أن العرب الحفاة العراة العاطلين عن كل المزايا عندما نزل عليهم الإسلام كان ذلك تكريمًا لهم ورفعًا لشأنهم وإيذانًا بعلو كعبهم بين الأمم فأخلصوا للرسالة وحملوها إلى أطراف الدنيا فدانت لهم الدنيا فارتبط مجدهم براية الإسلام، فلا مجال إذًا بعد اليوم لإعادة المعارك اليومية وإثارة التناقض المفتعل بين أمة عربية وأمة إسلامية لأن الإسلام دين وحضارة والعروبة ثقافة فعندما يلتئم الدين والحضارة والثقافة فإن البناء الحضاري العربي الإسلامي يصبح منطقة تنصهر فيها كل الأديان في نسيج واحد.

وللأمانة فإن هذه الركيزة من ركائز إعادة صياغة الفكر القومي العربي تحتاج إلى شجاعة الاعتراف من الجانبين ومن تبقى من المترددين منهم وألا يكون الوفاق بينهم مجرد اتفاق لظرف طارئ لمواجهة عدو يريد أن يقتلع العروبة والإسلام معًا وأن يستهدف أتباعهما في كل مكان.

الركيزة الرابعة: العلاقة بين القومية العربية وقيم حقوق الإنسان والديمقراطية.

فلا عودة إلى عبادة الزعيم ورفعه فوق كل المظان ومصادرة عقول الشعوب والنخب ولا يمكن تبرير امتهان المواطن أو التردد في تعزيز الحياة الديمقراطية فلا يمكن لحاكم أن يفخر بين الأمم وشعبه من العبيد حتى لو كانوا عبيدًا له .

ولا نريد أن نذكر بما حفل به الفكر القومي التقليدي من تكريس لشخصية القائد والزعيم فأصيب الزعيم بالغرور وأصيب شعبه بالنكسات، لأن الزعيم في ظنهم يعرف كل شيء لأنه زعيم ملهم ونسي هؤلاء أن الشعوب تلهم الزعيم بالعمل وتغلق باب الإلهام من السماء.

الركيزة الخامسة: هي العلاقة بين العروبة والعولمة.

يرى جانب من الفكر العربي أن العروبة قد ربطت نفسها في مرحلة من المراحل بالتيار الاشتراكي واعتبرت أن ضربه وسقوط الاتحاد السوفييتي والنظم الشيوعية هي ضربة للقومية العربية ولم يتمكن الفكر القومي التقليدي من أن يميز بين التيار الاشتراكي كحليف وبين التيار الاشتراكي كعلاقة مصير، ونظر إلى العولمة على أنها نفي للقومية العربية.

بالرغم من أن هذا تفسير ذاتي للعولمة لأن العولمة لا تستهدف القوميات بل مكنت لإعادة نشأتها ويتوقع أن يحدث صراع مرير في هذه المنطقة بين القومية العربية والقومية الفارسية والقومية التركية، ولذلك يجب أن يسارع الفكر العربي إلى تحديد موقفه من تداعيات الصراعات الإقليمية وتحديد تحالفاته الإستراتيجية.

الركيزة السادسة: علاقة القومية العربية بالصراع العربي الإسرائيلي.

روجت الدعاية الصهيونية وبعض الدراسات الغربية في تحليلها للقومية العربية إلى أنها تيار سياسي عابر خلقه عبد الناصر حتى يستميل عاطفة الجماهير في العالم العربي ويزلزل الأرض تحت أقدام الحكام العرب، كذلك صورت هذه الدراسات القومية العربية على أنها رد الفعل العربي على الهجمة الصهيونية على جزء من الأراضي العربية .

وبالرغم مما في هذا التصوير من بعض الصحة فإن الربط بين القومية العربية والصراع العربي الإسرائيلي سوف يؤدي إلى النتيجة التي تريدها إسرائيل وهي أن تسوية الصراع بأي شكل سوف تؤدي إلى إنهاء القومية العربية وبالفعل فإن ظهور مشروعات الشرق الأوسط بأوصافه المختلفة هي محاولة لتذويب الطابع القومي بعد أن تم القضاء عليه من الناحية العملية، وبعد أن ساهم العراق كما ذكرنا في خلط الأوراق حيث تراجعت إسرائيل كعدو لكي يبرز العراق كمصدر تهديد فعلي لمنطقة الخليج، وهو ما أدى إلى ضرب نظرية الأمن القومي العربي في مقتل على تفصيل لا نظن أن هذا السياق يحتمله.

ولذلك نعتقد أن العروبة حقيقة واقعية وتاريخية وأن استثارتها يعتبر عملاً دفاعيًا، على أساس أن الفكر القومي قدر له أن يكون فكرًا مقاومًا نظرًا لاستهداف المنطقة العربية لأسباب متنوعة عبر العصور وأخطرها نفي الوجود العربي لصالح المشروع الصهيوني أو إخراج العرب من التاريخ حتى يستقر فيه الصهاينة.

تلك هي القسمات الأساسية للرؤية التي أقدمها للفكر القومي العربي في مرحلته الراهنة، ومساهمة متواضعة في المناقشة الكبرى التي تجري بين المفكرين العرب حول هذه القضية الخطيرة.

وأخيرًا فإنني معني أيضًا بكيفية إصلاح الواقع العربي من خلال الفكر العربي المستنير ولا أريد أن أدخل في متاهة العلاقة بين المفكر والسلطة، ولكنني أكتفي فقط في سياق هذه الصيغة بأنه يتعين على الفكر القومي العربي أن يسجل مواقفه من القضايا السياسية الكبرى في العالم العربي، وأن يسجل في خانة أخرى مقابلة المواقف العربية الرسمية وأن يقيس الفارق بين الموقفين وأن يقدم للحاكم العربي رأيه مع إدراك الفارق بين التصورات المقالية الفكرية،  والضرورات العملية، وهذا منهج جديد للمقاربة بين المواقف الرسمية والمواقف الفكرية وتحقيق المصالحة التاريخية تحت راية الوطن بين الحاكم والمفكر وأن تختفي المصطلحات التي حفلت بها الساحة الفكرية في وصف الحاكم العربي بكل النعوت السلبية، والتي دفعته بشكل أكبر طلبًا للحماية من أعداء الأمة فأصبح جلادًا لشعبه كلما ضمن الحماية من هؤلاء الأعداء، وقد آن الآوان لفك الاشتباك المفتعل بين المفكر والحاكم أو بين المثقف والسلطة، فلم تعد مهمة المثقف أن يحرض الشعب ويبصره بأخطاء الحاكم مما يدفع الحاكم إلى البطش به أو أن يناهض الحاكم وينافسه في سلطانه مادام الحكم ديمقراطيًا يتم فيه تداول السلطة ويتسع للأقدر على خدمة المصلحة العامة، وإنما تظهر أزمة العلاقة بين المثقف والسلطة  في عصور الاستبداد واحتكار السلطة حيث يطارد المثقف ويعتبر الحاكم أن مطاردته هي حراسة للأمن القومي وضرب لمثيري الفتنة وضمان لسلامة الأمة.

عبد الله الأشعل  

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى