انتاج حياة سياسية جديدة  !

يرى الناس بالعين المجردة والعين المتواطئة أيضاً أن التاريخ اليومي المباشر للمحنة العربية يشي بالانسداد والانحسار والانسحاق ، ويحاول البعض الهروب منه الى التاريخ البعيد والماضي السعيد لقراءة الحاضر في محاولة للمقارنة والمصادرة وخلق اطمئنان ويقين كاذب  يستبعد اليقظة والقلق الفكري والوجودي ويوقف العقل عن الاستغراق في قراءة الواقع المختلف واشتقاق مناهج ورؤى واجتهادات جديدة ومستحدثة تتوافق ومعطياته ومتطلباته .

إنها إلى حد ما لعبة المعاني والتأويلات التي تدور حولها الشعوب المنكوبة في لحظات حصارها وانئسارها في دوائر مغلقة وحيث يحلو لها التحليق في المجردات والميتافيزيقا والمقاومة بالحيلة بدل الانكباب على التحديق في القضايا الشاخصة وتخليق الاستجابات المطلوبة ، ولعل ما نراه اليوم من تجليات عربية يوحي بذلك ويقود بذاته إلى فكر متازم وحالة أزمة ولا يشي بأي حال بإرادة لتغيير المنهج والمسار وخوض معركة وجود من نمط مختلف .

لا أحد يريد أن يفتح صفحة اللامفكر به وهو كثير ، ولا أحد يريد أن يعمّق فكرة التجاوز ولذلك لا يبقى في فضاء الناس إلا الهوامش والفكر اليومي والفراشات التي يطاردها العقل الكسول لتبعده عن الحقائق وتمارين العقل المطلوبة والضرورية لابتكار حالات وأحوال جديدة.

الجميع يرى ما يريد وما لا يريد لكن الوعي والعقل الشقي والصامت يتشرنق في متاهات فكرية ماضوية ومجلوبات سلطوية لا يتوق إلى الخروج منها ويبقى مغتبطاً بكسله وجموده ، وحتى إن تشجع يذهب إلى فكر الأمنيات والرغبات والينبغيات مكتفياً بالوعظ والتمني والسكوت الذي من ذهب ، وتلك هي الحالة الغرائبية المدهشة التي نعيش أو هي ورطة عقلنا ووجودنا الساكن الذي نحيا .

لا أحد كما تشي الوقائع يسعى لاشتقاق ثقافة أو حياة سياسية جديدة ومغايرة بالمعنى الذي يمكن أن يحولها ويجعلها نقطة بداية عقلانية للتغيير ، ولا أحد يريد أن يناقش الواقع المعقد ومعطياته بطريقة نقدية ، وتلك من العقبات الجارحة والكابحة والكارثية التي تحول الآن بين الانسان العربي ومحاولة انتقاله من الضياع إلى الفاعلية والحضور  ومن التشاؤم إلى الأمل .

دعونا إذن نبدأ التفكير بإنتاج وقائع وحياة سياسية جديدة ، دعونا نفكر بالمجال السياسي ومن يحتكره هنا والآن والبحث عن كيفية استعادته وحضور كافة أطراف المجتمع فيه ، دعونا نفكر بالفراغ والتفريغ الاجتماعي وأهواله وعواقبه ، دعونا نفكر بالفكر التغييري المطلوب في المرحلة الراهنة ، دعونا نفكر بالأدوات السياسية والاجتماعية المطلوبة بعد أن تلمسنا اهتراء وتكلس ويباس هذه الأدوات وعقمها ، دعونا نفكر بفراغ وجودنا الحالي وغياب مشروعنا القومي العربي وتكالب الأمم علينا .

إنها دعوة لمخاطبة الأنا – الأنا العليا للعربي في لحظة انشداهه وضيعته ، ومخاطبة المجتمع والحوار حول مسألة حضوره وأفوله ، وهي محاولة لاستئناف البدء ولو في وقت متأخر ، وهي في الآخر دعوة لا تريد أن تستعيد حسرة الغزالي عندما قال :

غزلت لهم غزلاً دقيقاً فلم أجد      لغزلي نساجاً فكسرت مغزلي

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى