” عندما بكى نيتشه “

بقلم : إنصاف قلعجي

تحاول، يا صاح، أن تعيد التوازن إلى نفسك بعد أن أرجحتك الحياة بكل قسوتها، في كل الاتجاهات، بين ما كان يقينا وما كان حلما.. تحاول جاهدا أن تقف على قدمين راسختين دون أن تهتز بفعل ساعة رملية، ترقبك، بكل زمانها العبثي من على طاولة المكتب، وتغمر نفسك داخل كتاب يجذبك عنوانه المثير بعيدا عن مشاهد الدم والقتل والدمار، وخوفٍ مما لم يأت، بعد أن أصبحت الحياة، حياتنا، عبثا، والعقل فقد تعقله.. فيقع بين يديك كتاب- رواية ” عندما بكى نيتشه “، فتعتريك نشوة روحية، تتابعه بنهم، لكنه هذه المرة النهم الحذر البطيء.. خوفا من أن تفوتك شاردة أو واردة.

متاهات وأنفاق، شقّها نيتشه داخل عقلي المستكين ربما، للمتكئات، تشدني حوارات الكتاب العميقة بين الطبيب النمساوي جوزيف بريوير، والفيلسوف والشاعر الألماني فريدريك نيتشه، لكنها في كثير من الأحيان، تدخلك في متاهات تتعب القارئ كما فعلت بالدكتور بريوير.

الرواية للكاتب والروائي والطبيب النفسي الأمريكي إرفين د. يالوم، صدرت عام 2015  عن منشورات الجمل، وقد ترجمها إلى العربية خالد الجبيلي. اشتهر المؤلف بكتابة روايات عن بعض الفلاسفة الكبار مثل ” مشكلة سبينوزا” و” علاج شوبنهور” و” مستلقيا على الكنبة”.

ولا شك أن نيتشه يصدمك بآرائه حول الحياة ومصير الإنسان والموت والاختيار والدين.. وقد قال:” إني أعرف تماما مصيري، سوف يرتبط اسمي بذكرى شيء، ذكرى شيء مهول. سوف يرتبط بتلك الزلزلة التي لم تشهد لها الأرض مثيلا من قبل. بذلك الصدام الهائل لكل أشكال الوعي، بذلك الحكم المبرم ضد كل ما اعتقد به البشر حتى هذه اللحظة، وكل ما هتفوا له وقدسوه.. أنا لست إنسانا.. أنا ديناميت”.

تبدأ الرواية برسالة قصيرة تصل الدكتور بريوير، تقول الرسالة:

دكتور بريوير،

يجب أن أراك لمناقشة مسألة بالغة الأهمية وعاجلة. إن مستقبل الفلسفة الألمانية على المحك. أرجو أن ألتقي بك في الساعة التاسعة من صباح الغد في مقهى سورينتو.

لو سالومي

بريوير، المعروف بأن عبقريته في التشخيص، أسطورية، وكان في فيينا طبيبا شخصيا لعدد من كبار العلماء والفنانين والفلاسفة، وذائع الصيت في أوروبا، اعتبر بأن هذه الرسالة  “وقحة” فلا يعرف مرسلتها، ولا يوجد عنوان على المغلف، خاصة أنه في هذه الساعة عادة ما يتناول الفطور مع زوجته ماتيلدا، وهما في فينيسيا في إجازة. فكيف استطاعت المدعوة لو سالومي أن تستدل على مكانه، وهو” لا يبدي أي اهتمام بالمسائل البالغة الأهمية”.

ويلتقيان، لتخبره بعد أن سحره جمالها، أن نيتشه مريض جدا ويحتاج لمساعدته، بعد أن عدّدت له أمراض نيتشه، وشعوره بالدوار” ينتابه أحيانا دوار البحر وهو على اليابسة”، وهو يردد دائما “إنه فيلسوف سبق عصره”. وتطلب من الطبيب أن يكتم الأمر عن نيتشه بمقابلتها له. ثم لاحقا يستدرج الطبيب نيتشه إلى عيادته، وتدور حوارات تشمل الكتاب بأكمله، وهنا يتحول الطبيب إلى مريض ونيتشه إلى طبيب، ليخوضا معا حربا كلامية حذرة. يقول الدكتور بريوير ” في المستقبل – من يدري متى، ربما بعد خمسين سنة؟- قد يصبح العلاج بالكلام هذا شائعا. أن يصبح “طب القلق” اختصاصا، ويتدربون عليه في كليات الطب أو ربما في أقسام الفلسفة”. يستدعيان ذاكرتيهما ويتعارفان أكثر، وتبدأ المودة بينهما ليبوح كل منهما بمكنونات نفسه، وعشقهما، الطبيب لبيرثا المريضة، ونيتشه للو سالومي. ويقنعه نيتشه بأنه، أي بريوير، أسير حب وعائلة وعليه أن يكون حرا دون هذه القيود. وكما قال له صديقه ماكس” هل سمعت في حياتك عن رجل صاحب بصيرة متزوج أو مدجن؟”، ويدخلان في سجالات عميقة حول موضوعات عدة مثل الصداقة والعزلة والزواج والخيانة والحب والجنس والوحدة والأمل واليأس وكنس المدخنة، أي تنظيف العقل من كل الذكريات والأحداث المؤلمة. الطبيب الذي حاول أن يستدرج الفيلسوف ليبوح ويعالجه، يصبح هو موضوع المعالجة بحبه، وحياته الأسرية، وحاجته إلى المعالجة النفسية.

في أحد الحوارات بينهما، يتطرق نيتشه إلى موضوع الوحدة والحب، يقول” كان يخيل لي دائما يا جوزيف أننا نعشق الشهوة أكثر مما نعشق المشتهى”. يجيبه الطبيب” إن بيرثا تساعد في التخفيف من وحدتي. بقدر ما أذكر، فقد كنت أخاف الأماكن الفارغة في داخلي، ولا علاقة لي بوجود، أو عدم وجود أناس. هل فهمت قصدي؟”. يجيبه نيتشه” آخ، من يستطيع أن يفهمك أفضل مني؟ في بعض الأحيان، ومثلك، فإن لا علاقة لذلك بوجود الآخرين. في الحقيقة، فأنا أكره الذين يسلبون وحدتي مني، ومع ذلك، فهم لا يقدمون لي صحبة حقيقية.. لأنهم لا يقدرون الأشياء التي أقدّرها. أحيانا أحدق بعيدا في الحياة وأتطلع فجأة حولي فلا أرى أحدا برفقتي، وأجد أن رفيقي الوحيد هو الزمن”. فيكون رد الطبيب” لست متأكدا من أن وحدتي تشبه وحدتك، ربما لم أجرؤ قط على ولوجها بعمق مثلك”. قال نيتشه معقبا” ربما، لأن بيرثا تمنعك من الولوج إلى عمق أكثر”.

ويستمر السجال بينهما . إلى أن يشفى الدكتور بريوير، فيتعاطف معه نيتشه ويبكي من أجله لتكون انطلاقة جديدة لنيتشه يركز فيها على إنسانية الإنسان.

يؤكد المؤلف بأن الشخصيات الروائية موجودة في الواقع، لكن الطبيب والفيلسوف لم يلتقيا قط مؤكدا أن الحوارات المتخيلة في ذهن الروائي، كان لها أثرها الكبير في العلاج بالتحليل النفسي.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى