عام على رحيل “هيكل”

بقلم : عبد الهادي الراجح

كم أشعر بالرهبة والحزن الشديدين وأنا أكتب هذا المقال عن الاستاذ الكبير.. الحاضر الغائب محمد حسنين هيكل ، الذي تعجز الكلمات وكل بلاغة لغة الضاد أن تعبر عن الفراغ الذي تركه في عالم صاحبة الجلالة، فقد كتبت عنه منذ أعوام في جريدة “المجد” أكثر من مقال, حيث كان الاستاذ كما هو في قمة عطائه الذي لم يتوقف منذ احترافه مهنة المصاعب (لمن يحترم نفسه).

منذ مطلع اربعينات القرن الماضي وحتى رحيله المفجع في السابع عشر من شهر شباط العام الماضي، عن عمر يناهز الــ93 عاما وبضعة أشهر، كان الاستاذ هيكل حديث العالم والمرجع لكل باحث أو مهتم في شؤون المنطقة والعالم.

لقد كان صحفيا لامعا يشار له بالبنان قبل قيام ثورة 23 يوليو المجيدة عام 1952م ، وفي عصر عمالقة الصحافة والإعلام, وبعد الثورة المجيدة اقترن اسمه باسم الزعيم جمال عبد الناصر، ففي أول لقاء بينهما, بعد عودة الجيش المصري من الفلوجه بفلسطين المحتلة التي كان عبد الناصر أحد أبطالها, تلاقت كيمياء الزعيم العائد والأستاذ المتحفز والمهني من الدرجة الأولى، ولم تنقطع العلاقة بينهما إلا برحيل الزعيم جمال عبد الناصر وقد قيل الكثير في تلك العلاقة بين الزعيم والأستاذ, وجاد الخيال للبعض ليقول كلاما تكذبه شخصية وكارزمية الرجلين (الزعيم والأستاذ).

لقد استمر الاستاذ هيكل في تجسيد الضمير الحقيقي لثورة 23 يوليو وانجازاتها, والمدافع عنها والمهندس الأول للإصلاح واستمرار روح الثورة بعد أن جرى اغتيالها على يد المرتد المقبور أنور السادات وزبانيته، فلم يجار استاذنا الكبير محمد حسنين هيكل انحرافات السادات خاصة بعد أن دعمه ووقف لجانبه حتى ضد رفاق الزعيم جمال عبد الناصر كونه يمثل الشرعية في ذلك الوقت واختيار الزعيم نفسه، وكان ذلك خطأ اعترف به الاستاذ فيما بعد، ويؤكد كل المؤرخين المنصفين اليوم بأنه لولا الاستاذ هيكل لتشوه التاريخ المصري بشكل خاص والعربي بشكل عام, وتحديدا بعد ظهور عصر البترول ومحطات الوقود الأمريكية الناطقة بالعربية التي حسبوها علينا دولا ، وبعد حرب أكتوبر المغدورة بشكل خاص.

الاستاذ الكبير حسنين هيكل هو الذاكرة والمرجع لكل باحث عن الحقيقة كما أسلفت التي كادت أن تهبط للقاع في تلك الظروف والمستجدات، وقد حاول السادات والأنظمة التي اعقبته في مصر أن يخطفوا ود الاستاذ ، حيث عرض عليه السادات منصب نائب رئيس الوزراء ومستشار للأمن القومي وحتى رئاسة الوزراء ذاتها، ولكن الاستاذ الكبير اعتذر بقوله لا أستطيع أن أخدم سياسة لست مقتنعا بها، وحاول السادات اسكاته بإخراجه من قلعته “الأهرام” الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لها بعد أن كانت قبله جريدة مكسورة غارقة بالديون لتصبح في عصر الاستاذ الكبير الصحيفة الأولى في الوطن العربي ومن أهم الصحف العالمية ، ومع خروجه من “الأهرام” عرضت عليه العشرات من الفرص في الوطن العربي وحتى في الدول الكبرى، فاعتذر بأدبه الجم بأنه لا يستطيع ترؤس صحيفة خاصة الأجنبية وقد يجبر على نشر مقالات تهاجم العرب.

لقد جن جنون السادات عندما كان يسمع بلقاءات الاستاذ الكبير مع معظم قادة العالم ، وكان السادات يقول، مش احنا أخرجناه من الأهرام ؟ غير ان السادات قدم للأستاذ هيكل, بقرار طرده خدمة العمر بإخراجه من الأهرام, حيث تفرغ لكتابة مقالاته وكتبه التي نشرت بمعظم لغات العالم تقريبا، حتى أن بعض مراكز الاستطلاع في الغرب وصفته بأنه, الى جانب 30 كاتبا وإعلاميا, الأكثر تأثيرا بالرأي العام. واستمرت مسيرة الاستاذ الكبير الذي قلت عنه ذات يوم في احدى مقالاتي بالمجد بأنه تاريخ أمة يمشي على الأرض.

لقد كان رحمه الله مؤمنا بعروبته وناصريته، لم تهزه الظروف والمتغيرات، وكان المرجع الأول في المنطقة والعالم وبيته الكبير في برقاش كان بمثابة الصالون الثقافي والأدبي لكل النخب الصحفية والأدبية في مصر والوطن العربي والعالم، ولا شك ان الشهرة والمجد اللتين وصل اليهما الاستاذ لم تحققا إلا بفضل عبقريته الفذة.

أخيرا, يحلو لي ان أقف أمام ما كتبه الكاتب والصحفي البريطاني المعروف روبرت فيسك حيث قال: ((عندما كان في السلطة كان الجميع ينتظر ماذا سيكتب الاستاذ هيكل، وبعد خروجه أصبح الجميع مشغولا بماذا يفكر الاستاذ هيكل)).

رحمك الله يا استاذ الأجيال وستبقى الحاضر الغائب, لأنك ذاكرة وفكر أمة والفكر لا يموت أبدا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى