تصفية مرحلة التحرر الوطني قبل إنهاء الاحتلال
بقلم : د. إبراهيم أبراش
وكأن إرادة الله وقضائه تلتقي مع إرادة نخبة سياسية ،دون تخطيط بطبيعة الحال ،في تغييب جيل مرحلة التحرر الوطني ومؤسساتها وثقافتها . فلا يمر يوم أو أسبوع إلا ونسمع عن وفاة أحد رجالات الثورة الفلسطينية من فصائل منظمة التحرير، أولئك الذين عاصروا الثورة وشاركوا فيها كلّ حسب مؤهلاته وتخصصه ،بعضهم في العمل العسكري في ساحات مواجهة الاحتلال التي كانت مفتوحة في يوم من الأيام داخل الأراضي المحتلة مرورا بلبنان والأردن إلى كل عواصم العالم ،وآخرون في مجال السياسة والثقافة والإعلام حيث أوصلوا اسم فلسطين ومعاناة شعبها وعدالة قضيتهم إلى كل دولة ومدينة وقرية في العالم الخ.
بعضهم رحل عن هذه الدنيا قضاء وقدرا بعد طول عمر ،وآخرون اغتالتهم إسرائيل برصاصة أو قنبلة أو بجرعة سم ,وآخرون اغتالتهم حالة الرداءة واليأس والإحباط فسقطوا صرعى جلطة أو سكتة قلبية . بعضهم رحل بصمت دون أن يسمع برحيلهم أحد أو تم نعيهم بتواضع من أفراد العائلة أو المقريين منهم ،وآخرون يحظى موتهم بدرجة من الاهتمام الرسمي والشعبي ويتم استحضار تاريخهم النضالي . بعضهم يترك زوجة وأبناء يعيشون على الكفاف وذكرى طيبة تعوضهم ،وآخرون ساعدتهم مواقعهم الوظيفية واعتبارات أخرى على توريث أبنائهم وأقاربهم مواقع متقدمة وحياة مريحة.
بالإضافة إلى من غيَّبهم الموت فهناك من غيبتهم السياسات الخاطئة ، حيث تم إحالة أعداد كبيرة من المناضلين ورجال الثورة للتقاعد المبكر دون إرادتهم وقبل أن تُستَكمَل مرحلة التحرر الوطني، ودون وجود خطة أو مجرد تفكير بالاستفادة من تجارب وخبرة هؤلاء لتنشئة وإعداد جيل جديد يحمل راية الثورة والنضال، الأمر الذي ترتب عليه فقدان التواصل بين الأجيال ونقص كبير في حقل التعبئة والتثقيف الثوري والكفاحي.
هذا الفراغ فتح المجال لجماعات الإسلام السياسي، لاستقطاب الشباب وحتى الأطفال من خلال المساجد والمؤسسات الدينية لتعبئتهم تعبئة أيديولوجية حزبية ضيقة ،حيث يتم ربطهم منذ الصغر بأيديولوجيا دينية أممية عابرة للوطنية بل متصادمة معها ، الأمر الذي جعل هذه الجماعات تتمدد حاضرا وتعمل على ضمان هيمنتها مستقبلا من خلال التواصل بين أجيالها ،وهو الأمر المفقود عند القوى والتيارات الوطنية.
جميع الذين غيب الموت اجسادهم أو غيبت السياسة أفعالهم ، تركوا بصمتهم الواضحة على صفحة النضال الوطني . وفي المقابل تم ملء الفراغ، الناتج عن الاستجابة لقضاء الله أو استجابة المُكرَه لسلطة الحاكم، بموظفين لم يعاصر أغلبهم مرحلة التحرر الوطني ولم يتم إعدادهم كمناضلين لمواجهة الاحتلال بل تم وضعهم على سكة واحدة وهي السلطة وما يرتبط بها من استحقاقات والتزامات لا تتوافق مع متطلبات التحرر الوطني ،موظفين مسحوقين تحت وطأة الفقر والحاجة للراتب والوظيفة ومعبئين بثقافة مشوهة عن التسوية والسلام.
هناك علاقة بين غياب الرعيل الأول من المناضلين الوطنيين وحالة التراجع التي تشهدها القضية الفلسطينية على كافة المستويات. مع أن هذه الإشكالية يمكن تعميمها على الحالة العربية حيث التراجع والانهيارات الكبرى وتسطيح الفكر والثقافة يتزامن مع غياب قيادات قومية ووطنية وازنة وجامعة وغياب الفكرة القومية الناظمة والمُلهِمة، إلا أن الإشكال في الحالة الفلسطينية أكثر أهمية وخطورة.
السلطة الفلسطينية راهنت كليا على التسوية السياسية وهذا ما يُفسر جزئيا ممارسات لا يمكن تفسيرها إلا بتوجه لتصفية أو تهميش حالة التحرر الوطني بمؤسساتها ورجالها وثقافتها وإخراج الحالة ككل من سياق التحرر الوطني . إن كان من المفهوم أن يجد هذا النهج مَن يدافع عنه خلال السنوات الخمس الأولى من قيام السلطة، إلا أنه بعد سنوات من المراهنة العقيمة على التسوية السياسية وفي ظل الإدارة الامريكية الجديدة ، ثبت بالدليل القاطع النتائج المدمرة لهذا النهج.
لا تخرج حركة حماس عن هذا النهج.. فبالرغم من اختلاف الخطاب السياسي بين حركة حماس وفصائل منظمة التحرير ، ولجوء الحركة للعمل العسكري الجهادي وامتلاكها قدرات عسكرية الخ ، إلا أن كل ذلك لا يندرج في سياق التحرر الوطني بل في سياق مشروع إسلام سياسي تقوده جماعة الإخوان المسلمين.
وأخيرا نقول : إن كان لا راد لقضاء الله وقدره في إنهاء أعمار البشر قادة كانوا أو مواطنين عاديين ،إلا أنه يجب أن يكون راد لقضاء البشر وسياساتهم ،أولئك الذين يتحملون المسؤولية عن إخراج الحالة الوطنية الفلسطينية عن سياقها كحركة تحرر وطني ، قبل إنهاء الاحتلال.
لقد راهن قادة إسرائيل الأوائل على عامل الزمن لتصفية القضية الفلسطينية وكانت مقولتهم الشهيرة حول مستقبل الفلسطينيين (الكبار يموتون والصغار سينسون ) . من المؤكد أن الكبار يموتون ولكن الصغار لا ينسون ولن ينسوا فلسطين ، ولكنهم الآن تائهون مسحوقون تحت وطأة العوز والفقر وغياب القيادة الملهمة ، أويتم التغرير بهم بأيديولوجيات غير وطنية.