ذكرى الميلاد والزمن المستعاد

لماذا تنهض فينا وأمام عقلنا ذكرى ولادة القائد العربي الكبير جمال عبد الناصر ؟ ولماذا نستعيد زمنه والأفق القومي الواسع المديد الذي افتتحه في مدارات حياتنا العربية ؟ ولماذا نستحضره في اللحظات الصعبة والمسدودة ليكون حافزاً وملهماً ومسدداً للخطى ؟

إنها الأسئلة التي تشخص أمام عقلنا ونراها مشروعة وموضوعية عند كل قراءة جديدة للماضي والحاضر والمستقبل ، ونحاول من خلالها أن نتأمل وقائعنا النافرة وأحوالنا المتراجعة ؟  فالأمر في حالة استذكارنا هذه لا يتعلق بشخص ورمز عربي قضى نحبه مجاهدا من أجل الأمة ورفعتها ، وإنما هي حالة رمزية تشير إلى مشروع وتطلع سياسي قومي عريض  حاول أن يضع أمام عقل الأمة كل الممكنات المعرفية والسياسية النضالية المطلوبة لبناء إنسان عربي تقدمي جديد وحالة نهضة تقوم على العقل والعقلانية واستنهاض الهمة والإرادة الشعبية القادرة على التحدي ومواجهة التحديات .

كانت مأثرة ناصر منذ لحظة ميلاده وحتى وفاته أنه افتتح أفقاً عربيا قومياً مغايراً يقوم على رؤية تاريخية راسخة بأن لهذه الأمة دوراً ومكانة لابد من استنهاضها وتفعيل وتبديل وقعها ومساراتها لتكون حاضرة في كل تحولات العصر والتاريخ ، ولذلك كانت رؤيته بحجم هذا التطلع التاريخي والجغرافي الذي شمل افريقيا وآسيا وبقية دول العالم ولم تكن شعاراً عابراً أو سياسة مرحلية وانتقالية ، وعلى ضوء ذلك تشكلت معظم مفردات مشروعه السياسي القومي العريض وتحددت عناصره ودوائره العربية والإسلامية والعالمية ومجمل نظراته وتطلعاته القومية بضرورة مخاطبة الكلّ العربي المتعلق بالوحدة العربية وليس الجزء القطري الذي سيبقى حبيس جغرافيته ومحدودية قدراته .

ولذلك بدا القطر المصري في العهد الناصري أرضية وإقليماً قاعدة وفضاءً لبناء أمة وحالة نهضوية نوعية وليس دولة تغرق في محدودية دورها ومصالحها واشكالياتها  وكان لهذه الرؤية أن وسّعت معنى عبقرية المكان والجغرافيا المصرية وأطلقت منها امتدادات سياسية وتاريخية جعلتها محورا  لسياسات وتكوينات جديدة جاذبة ونموذجية لتجميع الرؤى العالمثالثية الناهضة ومركزاً لدعم الثورات ومقاومة الاستعمار وحالة نوعية في الاستقطاب السياسي وتحديد القوى ومداراتها وتأسيس الطريق الاستقلالي الثالث المناهض للهيمنة والتبعية .

وكان لمصر في عهدها الناصري أخطاء ومشكلات ( ونحن على أي حال لا نتحدث عن عصمة وقداسات ) ولكنها كانت من  صميم اشكاليات المشروع وإعضالاته والتحديات الهائلة التي نهضت أمامه ، وكان  المأمول دائما ( وفقاً للرؤى الشعبية المشدودة لخطه ومشروعه القومي ) أن ينجح ناصر في تصحيحها وتجاوزها بعد أن يتخطى التداعيات الكبيرة والزلازل السياسية التي انحدرت عليه من كل الجهات وبعد أن وضعه الكيان الصهيوني ووضع الأمة في مأزق 1967  وجعله بين خيار الاستقالة أو الاستمرار وأختار الاستمرار على أن يكون رداً على الهزيمة وإعادة الاعتبار للأمة الجريحة وتأسيسا لحالة جديدة في إزالة آثار العدوان والتهيئة للمعركة الحاسمة .

هكذا نستعيد لحظة ميلاده لتكون معنى ودلالة حافزة ومعبرة .. هكذا نرى ناصر بشموخه وعنفوانه ..  هكذا نرى مشروعه وأخطاءه في سياقها الموضوعي .. وهكذا نستعيد لحظته بكل أوصافها وسماتها درساً وحافزاً  ..هكذا نضعها أمام عقلنا كلما حاقت بنا المحن وكلما حاولنا أن نقرأ الزمن ، زمننا العربي الحالي وزمنه الذي كان مدججاً بالمشاريع الكبرى والرؤى الخلاقة والمحاولات والمبادرات وبكل صور البطولة والانجازات, وأعز ما نتذكره في ذكرى ميلاده مطالبته للعربي بأن يرفع الرأس ويمضي لصناعة تاريخه, وأن يكون ذاتاّ لا موضوعاً من موضوعات التاريخ !

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى