عبد الناصر في ذكرى ميلاده
بقلم : عبد الهادي الراجح
تسعة وتسعون عاما مرت على ميلاد الزعيم جمال عبد الناصر التي نحتفل بذكراه هذه الأيام, بينما أمتنا العربية تمر في أدق المراحل وأكثرها خطورة فهي مهددة في هويتها وحتى وجودها, فقد أصبح الصراع اليوم والنضال ليس من اجل وحدة الأمة العربية من محيطها لخليجها كما نادى جمال عبد الناصر وغيره من احرار الأمة, ولكن أصبح النضال للأسف من اجل المحافظة على وجود الكيانات القطرية الهزيلة التي افرزتها صفقة سايكس- بيكو المشؤومة, وهذه الكيانات اليوم مهددة بوجودها بسبب صراعاتها الداخلية البائسة حول الدين والمذهب والعرق.. تلك الصراعات التي استغلها العدو اسوأ استغلال فهذه الهجمة البربرية ليست وليدة اليوم ولكنها جاءت مع وجود الكيان الصهيوني وزادت وتيرتها مع نهاية الحرب الباردة وبدء ما سمي بالمشروع الأمريكي, أي الشرق الأوسط الجديد بعد غزو العراق, ثم ليبيا واحتلالهما وإسقاط نظميهما الوطنيين اللذين مهما اختلفنا أو اتفقنا معهما لا يجوز تغيرهما, وخصوصا وان هذا التغير الذي حدث لم يكن بإرادة الشعب ولذلك ليس مستغربا أنه أول عمل قامت به البربرية الأمريكية بعد احتلال العراق هو حل جيشه الوطني وفرض المحاصصة الطائفية من خلال دستور بريمر المشؤوم وكذلك اغتيال علمائه ونخبه.
وفي ليبيا لم يكن مستغربا أن اول عمل قام به جرذان الناتو وتحت اشراف سيدهم برنارد ليفي, هو هدم أكبر تمثال للزعيم جمال عبد الناصر في مدينة بنغازي ، طبعا رافقتها صيحات التكبير الله أكبر والله منهم براء ، ثم البدء بالحرب القبلية بعد ذلك وتقسيم ليبيا على هذا الأساس كما جرى تقسيم العراق على اسس مذهبية وعرقية وليس ذلك مستغربا, فعندما استشهد العقيد معمر القذافي وقف أحد جرذان الناتو والخارج من سجن غوانتانامو بجانب جثمان الشهيد معمر القذافي ليقول جايك الدور يا بشار, يقصد الرئيس السوري بشار الأسد قبل أن تبدأ الاحداث المفتعلة في سوريا الشقيقة والتي ليس هدفها الاصلاح والديمقراطية التي ينادي بها النظام الوهابي المجرم في الجزيرة العربية أو النظام الأخواني المتأسلم في تركيا صاحبة أقوى علاقة اقتصادية وتجارية مع العدو الصهيوني شريكهم الأساسي في العدوان على سوريا, ليس بهدف ما يدعونه من اقامة الديمقراطية كما اسلفت ولكن لتدمير أسس الدولة السورية التي هي قومية بطبيعتها بعد أن دمروا العراق وحيدوا مصر ويحاولون الان اضعافها من خلال الجماعات الارهابية في سيناء وغيرها التي تعمل بدعم من العدو وحاضنته أمريكا.
وبذلك يتحقق بما نادى به المجرم بن غوريون عندما قال بأن أمن كيانه يتلخص بتفتيت أهم ثلاثة دول عربية هي : العراق وسوريا ومصر التي تشكل بيضة القبان، وليس بالقنبلة النووية التي يصعب استعمالها، لذلك عندما عرف العدو ومن وراؤه أن تفتيت القلاع الحصينة يبدأ من داخلها وبالتالي لا بد من العمل على اذكاء الصراعات الداخلية تحت عناوين مختلفة ولكن الهدف ضرب الأمة وتفتيتها والتالي تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ .
في هذه الظروف التي يحاصرنا في الغرب قيصر وفي الشرق هولاكو حسب تعبير شاعرنا الكبير نزار قباني رحمه الله, تأتي ذكرى ميلاد الزعيم جمال عبد الناصر قائد الأمة العربية ومفجر طاقتها وصاحب مشروعها القومي الوحدوي الذي رحل وترك هذا المشروع أمانة في أعناق الأجيال, لأن الوحدة التي نادى بها جمال عبد الناصر واستشهد من اجلها ليست من اختراعه, ولكنه أصدق وأنبل وأعظم من نادى بها, فاستحضار تجربته العملاقه ليست دعوة سلفية أو عودة للماضي فهو اول من رفض التجارة باسمه وحادثته المعروفه عندما ذكر له الاستاذ الكبير محمد حسنين هيكل رحمه الله ( بأن هناك فئات من الشعب العربي ترفع شعاراته وتسمي نفسها ناصرية, قال الزعيم جمال عبد الناصر ان القومية العربية ليست اختراعي ولا اختراع غيري ومن يظن ذلك فهو مخطئ فالقومية العربية موجودة قبلي وستبقى بعدي وأنا أحد أبنائها ).
لذلك فان ما يذكرنا بهذا الزعيم العظيم أشياء كثيرة, فيكفيه فخرا أن الأمة في عصره لم تكن مشرذمة, وانها ساعة الجد قادرة على جمع الصفوف من خلال الجماهير العربية التي تعلقت بعبد الناصر وليس بانظمتها التابعة والعميلة.
وعلى هذا الاساس فان من حارب تجربة عبد الناصر ومشروعه القومي هو الغرب وعلى رأسه أمريكا بلا شك, ولكن ساعد على ذلك وبشكل مؤثر عملاؤه وغلمانهم, ولعل رسالة الملك فيصل عبد العزيز آل سعود للرئيس الامريكي الصهيوني ليندن جونسون شاهدة على العصر وموجودة لكل متابع وباحث عن الحقيقة, حيث طالب فيصل بصريح العبارة بضرب مصر عبد الناصر من خلال اسرائيل واحتلال جزء من اراضيها, وثم ضرب سوريا واحتلال جزء من أراضيها حتى لا تحل مكان عبد الناصر بعد سقوطه المتوقع، وتنادي بالوحدة والقومية العربية، كما طالب في رسالته بدعم الأكراد من خلال العميل مصطفى البرازاني حتى يبقى العراق هو الآخر منشغلا بقضاياه الداخلية, وهي نفس الاهداف التي نادى بها بن غوريون والرسالة مؤرخة في 27 ديسمبر 1966م ، أي قبل النكسة الأليمة بستة أشهر .
لذلك كم كان العقيد معمر القذافي صادقا حين قال للزعيم عبد الناصر بعد حضوره اول وآخر قمة مع عبد الناصر في المغرب حرفيا ( سيادة الرئيس لا فائدة من هذه القمم التي تضم حكاما معروفين بارتباطاتهم) ومن المصادفات أن هذا ما اكتشفناه حديثا من خلال اعتراف العدو نفسه حين تحدث بأن الملك الحسن الثاني كان يضع أجهزة تنصت بالتعاون مع الموساد كي يطلع الأخير كل الجلسات المغلقة بالقمم العربية بالصورة والصوت التي عقدت في المغرب تحديدا.
وعليه فان ذكرى ميلاد الزعيم جمال عبد الناصر تشكل مناسبة لها خصوصيتها, فيكفيه فخرا أنه أقام ثورة قادها الجيش ولكن لم ترق فيها قطرة دم واحدة, وهذه حالة استثنائية في العالم الثالث, وأنه جعل الوحدة بمثابة الحلم والأمل والخبز اليومي لكل مواطن عربي وأدخل بلده مصر العزيزة لعصر الصناعة وأعاد مصر للمصريين بعد خطف دام قرونا من الزمن.
وعلى الساحة الخارجية دعم حركات التحرر العربية والإفريقية واللاتينية, لأنه يعلم أن المعركة مع الاستعمار معركة واحدة, كما حارب الرجعية العربية لأنها احدى ذيول الاستعمار وهذا ما ثبت صحته في القرن الواحد والعشرين .
لذلك عهدا لله يا زعيمنا وأنت بجوار ربك راضيا مرضيا اننا سنبقى سائرين على نهجك, ومحافظين على رسالتك.. أو نموت دون ذلك.
رحمك الله يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حيا .
وبعد ما اصدق الرئيس الحكيم حافظ الاسد حين قال عن الزعيم جمال عبد الناصر (كنا ايامه عبد الناصر كالأطفال نتشاجر ونتقاتل, ثم نذهب اليه ليصلح بيننا فقد كان هو الكبير والآمان دائما)