لا لا لا لن نقول وداعا للمجد

لأول مرة أشعر بصعوبة تكاد تكون مستحيلة في الكتابة تحت وطأة لحظات قاهرة، ربما فضلت الصمت أو حتى الموت قهرا وأنا أسمع من أستاذنا الكبير ”أبا المظفر” عن الظروف التي ستضطر المجد للتوقف ورقيا بعد أكثر من اثنين وعشرين عاما من الكفاح والنضال والحضور الدائم وبأقل الامكانيات، التي الخصها بأنها ارادة وتصميم من ربانها القطب الناصري الكبير ، وأسرة تحريرها اولئك الفدائيون الذين ضحوا بوقتهم لأجل ايجاد منبر عروبي محترم مختلف بالنوع، وليس بالكم، من الصحافة الورقية الأخرى المتواجدة في وطننا وعلى امتداد ساحتنا العربية .
اثنان وعشرون عاما وجريدة المجد تخوض معاركها التي هي معارك الوطن أولا والأمة ثانيا، وكانت حتى هذا العدد الذي أتمنى أن لا يكون الأخير منبر المقاومة وصوت الضمير للشعب، وطيلة عمرها المديد خاضت كل المعارك الفكرية والنضالية، لم ترهبها عصا السلطان والقبضات الأمنية كما لم يغرها ذهب السلطان ايضاً.
اثنان وعشرون عاما من الصمود والوقوف بوجه تيار الردة الجارف الذي تقف خلفه محليا وخارجيا قوى كبيرة مهيمنة ومسيطرة لها ارتباطاتها خارج الحدود ، ومع ذلك قاومت المجد وانتصرت على كل من حاول منعها ومصادرتها، وتحمل قبطانها السجن والوقوف الطويل بالمحاكم طيلة تلك السنوات ولسان المجد يقول سنبقى كالأشجار، وإذا قدر الموت سنموت واقفين ولكن لن نسقط أو نتراجع .
رفضت المجد كل الاغراءات التي ممكن أن تجعل منها صحيفة يومية، ومنها زيادة الاشتراك بها من دويلة نفطية، وقد رفض قبطانها أبا المظفر العرض عندما علم أن الثمن سيكون على حساب المبادئ والقيم الناصرية العظيمة التي ترفع المجد لواءها، وما كان من تلك الدويلة إلا الغاء اشتراكها ، وهذا ينطبق على العروض الكثيرة هنا وهناك ، ورفضت كل ذلك .
اليوم تجد جريدة المجد نفسها- وهذه قمة المأساة- مجبرة على الوقوف قليلا ( أتمنى ذلك) وليس التوقف والانقطاع الكامل، ولكن ونحن نقول ذلك لا نحمّل المجد وربانها وأسرتها فوق طاقتهم ولكل شيء حدود ، فجريدة المجد وأسرتها قوية بإصرارها على الثبات بدعم أصدقائها ومحبيها ولكن هذا التوقف رسالة أو صرخة أخيرة لكل المؤمنين بقيم الحرية والكرامة الانسانية أن يعرفوا بان السيل قد بلغ الزبى.
لقد كان صدور جريدة المجد خاصة في السنوات الأخيرة أشبه بالمعجزة، ولكن العتب واللوم ليس فقط على السلطة الحاكمة، التي كان دورها بكل أسف هو تجفيف منابع الفكر وتصحيره، فنحن لا نستطيع محاسبتها أو حتى تقييمها خارج سياساتها هذه التي نعارضها ونرفضها ولكن اللوم والعتب على الاصدقاء والمحبين الذين ما زلنا نراهن عليهم بأنهم رجال دولة أكثر مما هم رجال سلطة وحكم في كل المواقع.
ان توقف جريدة المجد أو اغتيالها جريمة يتحمل مسؤوليتها الاصدقاء قبل غيرهم، وخاصة عندما يرى الجميع أن الحكومات المتعاقبة جميعها-منذ جريمة وادي عربة- هي نسخة واحدة فيما يخص الحريات العامة والتنكيل بكل منبر حر ، الم تمنع هذه الحكومات عبر مدونة السلوك الاعلامي كل الاعلانات والاشتراكات عن جريدة المجد ؟؟
لقد شارك بذلك كل القوى الوطنية والنقابات المهنية وحتى الاصدقاء والمحبون، كلنا واولهم أنا كاتب هذه السطور ، قصرنا مع جريدة المجد وتركناها وحدها تجابه الرياح، حيث كانت الرسائل التي اصدرتها عن خجل مثل (الصدور كل اسبوعين وثم كل ثلاثة اسابيع ) وأسرة تحريرها وعلى رأسهم أبو المظفر يقاومون الموت البطيء لهذا المنبر الفذ الاستثنائي ، ولم ننتبه وربما الكثير منا لا يريد أن ينتبه طبعا نتيجة اليأس والإحباط الذي سيطر على الجميع، بينما كان هناك من يرفع راية النضال والوحدة ولو بالكلمة وعلى رأسهم المجد، وهي الوحيدة على الساحة الأردنية التي انتهجت هذا النهج في الوقت الذي اراد البعض للمجد الموت لشيء في نفس يعقوب.
نعم.. كلنا قصرنا مع المجد، وكلنا ساهمنا فيما وصلت اليه ، فقد كانت تقف وحيدة بدعوتها الوطنية والوحدوية ومحاربتها للفساد والاستبداد والصوت المعارض الوحيد في الاردن، بعدما رضخت جميع الاحزاب وأصبح هدفها فقط المساعدات المقررة من وزارة الداخلية والمغموسة بالتبعية المقرفة ، وبعدما تخلت النقابات ايضاً عن دورها، اجل لقد ابتعد الاصدقاء إلا القلة القليلة، وما أشبه تجربة جريدة المجد النضالية بتجربة من تتشرف بالانتساب لفكره الزعيم جمال عبد الناصر الذي تآمر عليه الاشقاء قبل الاعداء وساهموا في نكسة حزيران الأليمة ، ولكن الزعيم لم يستسلم بل بقي في الميدان يبني ويعد ويقاتل حتى اسقطه الموت في ساحة الوغى وهو يوحد الأشقاء ويطفئ نار الفتن والقلاقل .
وهكذا جريدة المجد بقيادة ”أبا المظفر” ورفاقه ولكن الحصار كان شديدا والضرب تحت الحزام كان موجعا وقاتلا خاصة اذا كان من الاصدقاء ورفاق الدرب الذين وقفوا متفرجين وكأنما الذي يحدث من خنق واغتيال لمنبر حر شهد له الجميع بالنزاهة والموضوعية.. إنها صحيفة وطن وصرخة أمة تدعو لوحدة الصف الوطني ووحدة الأمة لأجل الغد والأجيال القادمة .
جريدة المجد وربانها واسرتها أعتذر منكم فأكثر من اثنين وعشرين عاما وهي نصف العمر تقريبا لكاتب هذه السطور أمضيتها متابعا وقارئاً بالدرجة الأولى لجريدة المجد، وثم كاتبا أتشرف بأني خرجت من هذه المدرسة الناصرية العظيمة، لذلك يصعب علي جدا جداًا أن أقول وداعا للمجد، وما اقصد بكتابتي هذه رثاء للمجد (وهل الشهداء يرثون) وهم افضل بني البشر، ولدي امل كبير بالله أولا وبالمخلصين والأحرار من ابناء شعبنا وأمتنا في كل المواقع والاتجاهات الفكرية ورجال الدولة وليس رجال السلطة بأن لا يسمحوا باغتيال هذا المنبر والمغادرة النهائية للساحة الاعلامية بعد اشارة الوقوف وللصرخة التي أطلقتها المجد في أكثر من مناسبة ، وإذا لا قدر الله بقي هذا التقصير من لدن الاصدقاء فان هذا يعني انطفاء آخر الشموع المضيئة في وطننا، وقصف آخر الازهار الجميلة في حدائقنا، وبعد ذلك ستكون الساحة فارغة من صحافة (لا) في الأردن، ولن يكون هناك إلا صحافة االلون الواحد .
لذلك لن نقول وداعا لمن يقاتل التصحر الفكري ويدعو للعمل الوحدوي، لأن المجد رسالة وكلمة صادقة وفكر، والكلمة والرسالة لا تموتان أبدا ، ويبقى الأمل بمن نأمل بهم خيرا ، ولا عذر للصامتين .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى