اشراقات آسيوية
بقلم : اسماعيل أبو البندورة
لم يعن الفكر العربي كثيراً أو كما هو مفترض بتلك الأفكار السياسية الكبرى التي انطلقت في القارة الآسيوية قديماً وحديثاً وشكلت نسقاً مغايرا من الأفكار وحقلاً من الرؤى السياسية الابداعية الخلاقة التي أخذت بيد بعض الدول الآسيوية نحو التطور والنمو ودفعت بها لكي تصبح من أقوى وأهم مراكز التصنيع والتكنولوجيا في العالم وأدخلتها في منافسة ومغالبة اقتصادية حادة مع الدول الرأسمالية الكبرى بالإضافة إلى توليدها لمخاوف وهواجس كبيرة لهذه المراكز الكبرى.
ومع أن انفتاحاً على هذه الأفكار الآسيوية الملهمة قد تولد بعد ولادة حركة عدم الانحياز في النصف الثاني من القرن العشرين وبعد أن أقام الراحل جمال عبد الناصر جسرا هاما مع هذه الشعوب ، إلا أن ذلك قد تراجع لاحقاً مع التراجع الذي لحق بالأمة العربية وبهوت وانحسار دورها الاقليمي والدولي .
في تلك الفترة من القرن العشرين قرأ الناس عن الثورة الصينية بقيادة ماوتسي تونغ وثورة الهند على الاستعمار بقيادة غاندي وسياسة اللاعنف ، واطلعوا على رؤى اسلامية حديثة من خلال كتابات محمد اقبال وآزاد ، وناقشوا الأتاتوركية ومعطياتها الجديدة سلباً وإيجابا ، كما تعرفوا على فكر مهاتير محمد واطروحاته الحديثة المخصبة حول الاسلام والتنمية وغيرها من القضايا الحيوية.
والمهم في كل ذلك أنه كان هناك انفتاح على هذه الأفكار وكانت هناك قراءات ، كما كان هناك ميل للرفض أو الاقتداء بهذه الأفكار، إضافة الى ما ظهر من مقاربات تدفع للمقارنة والتوظيف والاستلهام وتسخير ذلك لإثارة أسئلة في مجالات الفكر والواقع العربي من أجل النهوض به وتوسيع دائرة اهتماماته وانشغالاته وتسخيرها لبناء حالة عربية متقدمة واستقلالية.
والحقيقة أننا لو أردنا معاودة هذا الانفتاح وتجديد الحديث عن هذه الأفكار الآسيوية التي نسميها إشراقات كانت قد لمعت في فضاءات آسيا في القرن الماضي والحالي وأنتجت صورا جديدة لواقعها وأحدثت إنذهالا في بعض اللحظات أو مخاوف لتلك القوى التي لا تحب ولا ترغب أن ترى عوالم ناهضة ومستقرة ونامية ومستقلة خارج العالم اللااوروبي وتسعى دائما لأن تراه مجالا وحقلا للتوسع والانتهاب والتخلف . فإننا سنجد فيها في مرحلتنا الراهنة الكثير مما يقال وما يمكن استلهامه منها وخصوصاً أننا بتنا في الآونة الأخيرة نجد أنفسنا أمام حالة صفرية تحثنا مرغمين أن نبدأ بعض الوثبات ولحظات الاستنهاض من هذا الصفر النهضوي المحرج الذي تعيدنا إليه الحالة العربية الراهنة ويحثنا على أنماط من القراءات الجدية الملهمة.
في آسيا كانت الصين والثورة الصينية وتحالفاتها ومقاومتها للاستعمار وفي الصين كانت هناك قراءة وطنية للماركسية وجهت للفلاحين أساساً وكان هناك تصيين للماركسية ، وكان فيها ثورة ثقافية أرادها “ماو” أن تكون خلخلة للكثير من الأفكار والحالات الناتئة في الواقع الصيني على الرغم من قساوتها وعصفها بالكثير من المعايير الانسانية وإتيانها على الكثير من الانجازات الثقافية والحضارية في الصين.
وفي الهند كانت هناك آراء مختلفة لمقاومة الاستعمار وكان هناك العنف أو اللاعنف الذي اخذ به غاندي ، وكان الأهم أن يجتمع الناس على موقف موحد من الاستعمار وأن تتجمع في هذا الموقف كل الرؤى والقوى الساعية لطرد الاستعمار وتحرير الهند ، وكانت في الهند قوميات ومذهبيات متعددة انصهرت في لحظة تاريخية واحدة لطرد الاستعمار مع أنها تباعدت في لحظات أخرى وأنتجت دولا جديدة وتلك منعرجات ثانية دخلتها الهند في أطوار تاريخية وسياسية ثانية.
وكانت الأتاتوركية في تركيا والظهور المادي والرمزي للعسكرتاريا ، وأوربة الشعب التركي وفصل الدين عن الدولة والحياة والعلمنة وغيرها من المجلوبات التي كانت مجال تنازع في عدة مراحل من مراحل التطور السياسي والتاريخي لهذه الدولة الهامة ، ومن ثم تطور كل ذلك الى وضع تركيا الأخير والراهن بمجيء الأحزاب ذات الصبغة الاسلامية وتقويضها للكثير من المنطلقات والمفاهيم التي أتى بها أتاتورك وصبغت الحياة والنظام في تركيا بصبغتها القسرية لفترات طويلة .
ولو أردنا الاستفاضة لذهبنا إلى ماليزيا وأندونيسيا وكوريا وايران وقرأنا فيها ما يلفت العقل وألأذهان إلى الكثير من الرؤى اللافتة والأفكار الموحية للتعلم والمقارنة إذ أن فيها تجارب ايجابية حققت الكثير وأحدثت تغييرا في مجتمعاتها وأكدت استقلال فكرها وقطيعته المعرفية مع الأقانيم الاستعمارية التي وضعت أمام عقل الشعوب وأرضختها لأنماط من الهيمنة الثقافية والأبعاد الواحدية والرؤى المعلبة .
إنها آسيا التي ننتمي إليها ولا بد أن نقرأ في زمن المراجعات الذي نفترضه ما حصل في بعض بلدانها من تحولات وتطورات في القرن العشرين وما بعده وما ظهر فيها سابقاً ولاحقاً من أفكار ورؤى احيائية وتنموية وتجارب ديموقراطية مغايرة وذلك على طريق سعينا القومي في الاستلهام والاستنهاض واشتقاق الأجوبة الضرورية لكل ما يدور ويتجلى في مجال الأزمة العربية الراهنة ومن اجل اختراق هذا الانسداد الطاغي وتحريك الأمة نحو النهضة والتحرر .