العنصرية الامريكية والاوروبية اخطر واقذر مراحل الرأسمالية !!
حين تبلغ الرأسمالية ارذل العمر واهزل درجات الشيخوخة، تدخل في عتمة الخرف والخبل والزهايمر السياسي، وتمعن في معاقرة الغلط والخطأ والضرب على غير هدى، وتتيح للخرافة ان تنتصر على الحقيقة، وللعنصرية ان تتغلب على الآدمية، وللاكذوبة ان تسيطر على المصداقية، ولصناديق الاقتراع ان تتقيأ اسم دونالد ترامب ليتولى مقاليد الرئاسة الامريكية.
منذ عصر كارل ماركس، رائد الفكر الاشتراكي حتى اليوم، دأب فلاسفة السياسة والاقتصاد على التحذير من مخاطر وعقابيل الازمات المتناسلة من رحم الرأسمالية، والتي كثيراً ما تبلغ حدود الوحشية، وتقود الى حروب ضارية وصراعات عالمية.. غير ان اولئك الفلاسفة الكبار لم يتطرقوا في تحذيراتهم ونبوءاتهم الى محصلة خرف الرأسمالية وعمى بصيرتها وفقد ذاكرتها.
بعد افلاس الخزينة الامريكية عام 2008 جراء طيش الرئيس التعيس بوش الابن، ولؤم عصابة المحافظين الجدد، اصيبت زعيمة الرأسمالية العالمية بصدمة عصبية افقدتها الوعي، وسلبتها الرشد، واوقعتها في قبضة الذهول، وارغمتها على الدوران حول نفسها، واعادة النظر في مجمل نهج الغطرسة المسلحة والتدخل العسكري السريع خارج حدودها.
وحين افاقت من هول الصدمة، حاولت راعية الرأسمالية وحاضنة ”وول ستريت” التقاط انفاسها المتقطعة، واستعادة توازنها المترنح، وتمالك اعصابها المرتجفة، واغلاق منافذ استنزافها المالي والقتالي، وتغيير جلدها الخارجي وليس جوهرها الداخلي.. فنقلت البندقية من الكتف الجمهوري الى الآخر الديموقراطي، وانتخبت رئيساً اسود للدوام في البيت الابيض، وقررت ليس الانسحاب من العراق وافغانستان فقط، بل الكف ايضاً عن لعب دور شرطي – الادق بلطجي- العالم، والاستعاضة عن شهوة المغامرة باستراتيجية القوة الناعمة، والحروب بالوكالة، والقيادة العسكرية والاستخبارية من الخلف.
بادئ الامر عمدت ادارة اوباما، في معرض تداركها للاوضاع، الى الطرق والحديد ساخن، وسعت – على الصعيد الداخلي- لتقليم مخالب الرأسمالية وانياب النيوليبرالية، وتحقيق قدر ما من الرعاية الصحية والاصلاحات الضريبية والعدالة الاجتماعية وضبط المديونية.. كما حاولت – على الصعيد الخارجي – فتح ابواب الحوار والتفاهم مع روسيا والصين والعالم الاسلامي، وتوفير حل مقبول ومعقول لقضية فلسطين ومجمل الصراع العربي- الاسرائيلي.. غير ان رياح العنصرية الهوجاء سرعان ما جاءت بما لا تشتهي سفينة اوباما، حيث هب اللوبي اليهودي، والمجمع الصناعي- العسكري، واخطبوط الدولة العميقة، لوضع العصي الغليظة في دواليب مشروع التغيير الكبير الذي اتخذه المرشح اوباما شعاراً مركزياً لحملته الانتخابية.
”انضبعت” ادارة اوباما وارتعبت وارتدعت سريعاً، وفقدت طاقة الحزم وقوة المبادرة والاقدام، وارتضت من الغنيمة بالاياب، كما يقول الشاعر، واقتنعت بمسك العصا من المنتصف، واستعاضت عن فعل ما تريد بالامتناع عن فعل ما لا تريد، كما تخلت عن الوضعية الهجومية لحساب الوضعية الدفاعية في مواجهة حملات التشويه والتشكيك والتخويف التي قادها ”صقور الواسب”، ليس ضد السياسات الاوبامية فحسب، بل ضد اوباما نفسه الذي حملوا عليه بشدة، وقذفوه باغرب الاتهامات، حتى زعموا انه مسلم متنكر في ثياب مسيحية.
وعليه، فقد جاءت ادارة اوباما اصغر من مقاس شعاراتها واطروحاتها، واضعف من مجابهة معسكر خصومها المحافظين المدججين بالمشاعر العنصرية والاستعلائية والاستفزازية، وبما يعيد الى الاذهان رد الزعيم الصيني العظيم، ماوتسي توتنج، على من طالبه بعدم استفزاز امريكا، بالقول :”لا تحدثني عن استفزاز النمر، فهو مستفز بطبعه”.
ليس فينا من ينكر التأثير المأساوي الفظيع لمذابح داعش والقاعدة وباقي العصابات الارهابية على الرأي العام العالمي، والاساءة البالغة التي الحقتها بالاسلام تحديداً والمسلمين عموماً، واثارت عاصفة عاتية من الكراهية لهذا الدين الحنيف واتباعه، لدى القارات الخمسة، خصوصاً لدى الغرب المسيحي الذي لم يكن اصلاً وتاريخياً على وفاق مع العقيدة الاسلامية منذ ايام الحروب الصليبية.. والشواهد كثيرة، فقبل ضرب برجي التجارة في نيويورك بعشر سنوات، اصدر الرئيس الامريكي المخلوع ريتشارد نيكسون، عام 1992، كتاباً بعنوان ”الفرصة السانحة” اعتبر فيه ان الاسلام هو العدو الثاني والباقي للغرب بعد انهيار العدو السوفياتي، ودعا المعسكر الغربي الى الانقضاض على العالم الاسلامي، ما دامت الفرصة سانحة لذلك.. وحين ارسل بوش الابن جحافله لسحق افغانستان تبعاً لغزوة منهاتن المشؤومة، اعلن على الملأ انه يخوض ”حرباً صليبية” على نظام طالبان.. اما بابا الفاتيكان السابق بنديكت السادس عشر فقد اخترق كل الخطوط الحمر، حين استشهد، في محاضرة له عام 2006 بالمانيا، بمقولة قديمة لامبراطور بيزنطي جاء فيها ”ان محمداً لم يأت الا باشياء شريرة وغير انسانية، مثل دعوته لنشر العقيدة التي بشر بها بالسيف”.
اذن، الحكاية ليست حكاية رمانة، وانما القلوب مليانة، وفقاً للمثل الشعبي، وقد جاءت جرائم وفظائع داعش واخواتها لتصب الزيت على النار، وتقدم اغلى الهدايا واهم الخدمات لاعداء الاسلام والمتربصين به.. ولعل في هذا اوضح دليل وانصع برهان على عمالة هذه الجماعات الارهابية لدوائر الاستخبارات الغربية عامة، والصهيونية بشكل خاص.. ذلك لان هذه الجماعات التي تضم قطعاناً من المدسوسين والمهووسين، قد نجحت – بكل اسف- ليس في تخريب الديار العربية والاسلامية فحسب، بل ايضاً في تشويه صورة هذا الدين، ووصمه بما ليس فيه، ووضعه – وهذا المهم- في مهب رياح الكراهية العالمية، بعدما كانت هذه الرياح موجهة تاريخياً، ومنذ اقدم العصور، الى اليهود والديانة اليهودية.
بكل شغف وترحاب، تلقف ترامب الكذاب وابناء طبقته اليمينية والعنصرية الغربية هذه الهدايا الداعشية والقاعدية القذرة، وباعوها على شعوبهم، ونفخوا فيها حد الفجور، وبالغوا في توظيفها لتأجيج المشاعر الفاشية والصليبية المناهضة للمسلمين، ليس في بلدان العالم الاسلامي فقط، بل في عموم الجغرافيا الامريكية والاوروبية ايضاً.. رغم معرفة كل الخبراء والمختصين بان الرد على النار العنصرية والاصولية بالمثل سوف يزيد الازمات الدولية تفاقماً وتعقيداً، وقد يجر العالم الى صراعات وحروب دامية وطويلة الامد، بينما المطلوب والمتوجب امنياً وحضارياً، هو الرد العقلاني المتزن، والانضباط النفسي والسياسي، والترفع عن الغرائز العنصرية والعصبوية، والارتقاء الى اعلى مستويات المسؤولية الانسانية، والبحث الجدي عن الحلول الوسطى والمخارج السلمية.
لو لم تكن الرأسمالية الغربية الشمطاء قد بلغت اضيق مآزقها، وفقدت عزمها وعنفوانها وقوة تجددها، وعجزت عن منافسة المارد الرأسمالي الآسيوي الناهض, لما اسلمت زمامها لمقاول فظ من طراز ترامب، ولما تقبلت مثل هذا النمط المتخلف والسخيف من الطرح والتفكير، ولما نكصت عن السير الى الامام والردة الى الوراء، حيث عادت لاحياء الصراعات الدينية والنعرات العنصرية، بعدما كانت قد قطعت شوطاً طويلاً على دروب العولمة والعلمانية.
طال المقال وشعر القارئ، في الغالب، بالضجر والملل، وآن لنا قبل الختام ان نحذر اهل الولايات المتحدة- ونبشر خصومهم واعداءهم- بان ترامب الاحمق والاخرق الذي تفوق على نفسه في ”صناعة العداء” داخل البيت الامريكي، ومفاقمة التناقضات الطبقية والعرقية والطائفية والجنسوية (الجندرية) بين مكونات الشعب الامريكي، سوف ”يخربها ويقعد على اطلالها”، شأنه شأن ذلك ”المُنبتّ الذي لا ارضاً قطع، ولا ظهراً ابقى”.. وليس امام الشعب الامريكي، وربما العالم، سوى انتظار بلوى خلط الاوراق، وفوضى الموازين والمعايير والقياسات، اذا طالت اقامة هذا الرجل الهتلري في البيت الابيض !!