لو أمطرت السماء تلك الليلة..

بقلم : إنصاف قلعجي

هل كان مسار الرواية يتغيّر لو أمطرت تلك الليلة..

الرواية بعنوان” الساعة الخامسة والعشرون” للكاتب الروماني كونستانتين فيرجيل جيورجيو، رواية فذة مرعبة، نشرت عام 1949 ، وحققت شهرة كبيرة، حاز الكاتب على جائزة نوبل للآداب. صدرت ترجمتها للعربية عن المركز الثقافي العربي  في الدار البيضاء. وكانت قد صدرت عدة طبعات بالعربية،  وتناولت بالتحليل العميق مأساة الحرب العالمية الثانية وانهيار الحضارة الغربية  وقتل الإنسان لأخيه الإنسان بعدما أصبح عبدا للآلة، لا يفكر ولا علاقة له بالإنسانية، وهو ما يسميه تريان كوروغا، أحد أبطال الرواية” الرقيق الفني” ، وكيف استطاعت هذه الآله والتكنولوجيا الحديثة أن تسحق الإنسان الحديث وتحوله إلى آلة فقدت القدرة على التفكير. يقول: إن الرقيق الفني، هو الخادم الذي يقدم لنا يوميا، ألف خدمة لم نعد نستطيع الاستغناء عنها. إنه يدفع سيارتنا، ويعطينا النور، ويصب لنا الماء لنغتسل، ويحمل لنا مخابراتنا ورسائلنا، ويروي لنا قصصا لنتسلى عندما ندير زر المذياع، إنه يخطط لنا الطرق، ويزيل الجبال من أماكنها.. إن الرقيق البشري زميل الرقيق الفني في المجتمع العصري، كان معتبرا عند اليونان والرومان، كالقوة العمياء، عديمة الإحساس، كانوا يبيعون الرقيق ويشترونه، ويقدمونه هدايا ويقتلونه.. لقد كان الأمر في ذلك الحين، مشابها تماما للمقياس الذي نستعمله اليوم في تقدير الرقيق الفني.. لقد برهن الرقيق الفني على أنه أكثر طواعية، وأقل ثمنا من الرقيق البشري…إن تفوق العبيد الفنيين الذين يعمرون الأرض اليوم، تفوّق عددي ساحق، فإذا نظرنا بعين الاعتبار إلى أن العبيد الفنيين، يسيطرون اليوم على النقاط الحيوية في المجتمع العصري، أدركنا أن الخطر بيّن، وبعبارة عسكرية فنية، نقول إن الرقيق الفني يقبض بين يديه، على النقاط الاستراتيجية في مجتمعنا، من جيش وخطوط مواصلات، وتموين وصناعة وعدد آخر أكثر أهمية..

لو أمطرت تلك الليلة، لما استطاع بطل الرواية الفلاح يوهان موريتز أن يقابل حبيبته سوزانا ويودعها ليذهب إلى أمريكا ليكسب رزقه ويعود بعد ثلاث سنوات ليتزوجها ويبني لها بيتا.(وراح يحدث نفسه بأنه لو أمطرت السماء ذلك اليوم، لكان الآن في أمريكا، لو لم يقابل سوزانا تلك الليلة. نعم لو أنه لم يقابل سوزانا، تلك الليلة، لكان اليوم في مكان بعيد، ما كان يمكن أن يكون في معسكر اليهود). لكنها لم تمطر، فكان مضطرا لوداعها، لكن أحداثا مريرة تقع تلك الليلة، فيلغي سفره إلى أمريكا. ويعتقل بوشاية من مسؤول المخفر الذي أراد إبعاده لينفرد بحبيبته سوزانا. ويُتهم بأنه يهودي، فينفى لينتقل من سجن لآخر، تمارس ضده شتى أنواع التعذيب في معسكرات الاعتقال، وينفي في كل مرة أنه يهودي، وهو روماني أرثودوكسي. فيهرب إلى هنغاريا، وهناك يلقى القبض عليه ليمارس عليه التعذيب من جديد، حتى تلقي به الأقدار في ألمانيا حيث يعمل في مصنع لنقل صناديق الأزرار إلى العربات. لقد سيطر عليه إيقاع العربات.. “كان في الأيام السالفة، عندما يشتغل شغلا مضنيا، يتفصد العرق من جسمه ويشعر بالتعب فيسب ويشتم. أما الان فإنه لم يكن يسبح في عرقه … لذلك فقد كفّ عن السباب. لم يكن يحس بأنه يعمل، وكذلك لم يكن يشعر بأنه لا يعمل”. كان يوهان موريتز أثناء عمله السابق يفكر في شتى الأمور فيمر الوقت دون أن يشعر بمروره. أما الان فقد عدل عن التفكير. “كان يستطيع التفكير بألوف الأشياء من خلال رفعه الصندوق وإيداعه جوف العربة. لكنه لم يكن يجد في رأسه خيالا خصبا يحلق به إلى مرتبة التفكير. كان رأسه فارغا خاليا من أي نوع من الصور. لقد فارقته الأحلام والأفكار. فكان لا يفكر حتى في عمله. كان يعرف أنه يقوم بعمله ذاك ليس بقوة ذراعيه فحسب، بل بمجهود من عقله كذلك. ولولا ذاك المجهود الفكري، لكان عقله ودماغه في مكان آخر. لكنهما كانا هنا. قرب الصندوق، لصق الآلة”.

تدخلنا هذه الرواية في أجواء مرعبة كتلك التي في روايات الكاتب البريطاني جورج أورويل، وإن كانت هذه، تتحدث عن قرب انهيار الجنس البشري بعد أن أدمن على القتل وسفك الدم.

إن تريان كوروغا الكاتب والشاعر،هو من يحاول أن يجد الحلول عبر تأليفه لرواية: الساعة الخامسة والعشرون، التي يحاول من خلالها أن يكتب عن مستقبل البشرية في ظل خضوعها لعبودية الآلة. لكنه يقول في إحدى نبوءاته: إننا سنموت في أغلال العبيد الآليين، وستكون روايتي، كتاب هذه الخاتمة.. الساعة الخامسة والعشرون، اللحظة التي تكون فيها كل محاولة للإنقاذ، عديمة الجدوى، بل إن قيام مسيح لن يُجدي فتيلا. إنها ليست الساعة الأخيرة، بل هي ساعة بعد الساعة الأخيرة.. ساعة المجتمع الغربي، إنها الساعة الحاضرة.. الساعة الدقيقة المضبوطة”.

ويضيف بأن الإنسان بدأ يشعر بالدونية أمام الآلة ويحاول تقليدها والتخلي عن مزاياه الإنسانية.. وهذا التحول البطيء سيقلب الكائن الحي ويجعله متخليا عن إحساساته، وعلاقاته الاجتماعية، ويجعلها محصورة في حدود ضيقة واضحة آلية تماما، كتلك العلاقات التي تجمع بين قطعة آلة وأخرى. وسوف يقلد البشر في علاقاتهم الاجتماعية، وفي الإدارة، وفنون النقش والرسم، والأدب وفي الرقص، الأسلوب واللغة الخاصين بالرقيق الفني، وستصبح المخلوقات البشرية ببغاوات تنقل رغبات العبيد الفنيين. غير أن كل هذا، ليس إلا بداية الفاجعة. من هذه البداية تبدأ كذلك رواية تريان كوروغا.

رواية” الساعة الخامسة والعشرون”، مليئة بالأحداث والصراعات والمؤامرات والدم، تشعرك بالاختناق، وبأن العالم في ظل هذه الحروب المستمرة، لن ينجو أبدا، فهي إذن، ليست الساعة الأخيرة، بل نحن نعيش الساعة بعد الأخيرة، ساعة فرجيل جيورجيو.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى