صراع القطبين الامريكي والروسي
بقلم : فؤاد دبور
انتهجت الولايات المتحدة الأمريكية إستراتيجية زيادة التحكم والتفرد في النظام العالمي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي اواخر القرن الماضي عن طريق منع بروز دول عظمى منافسة لها ، واستغلت هذا الانهيار لتوسيع دائرة نفوذها في مناطق مختلفة من العالم ، وتنطوي هذه الإستراتيجية على ضرورة استمرارية زعامتها وقيادتها وهيمنتها الدولية باعتبارها على حد زعمها، شرطا ضرورياً للاستقرار الشامل في العالم حيث أن عدم الاستقرار الدولي يشكل خطرا يهدد مصالحها الإستراتيجية بعامة والاقتصادية منها بخاصة.
بمعنى أن هذه الإستراتيجية الأمريكية الهادفة إلى السيطرة الجيوسياسية تقوم على اختلال توازن القوى لتحقيق مصالحها وبخاصة في أوروبا وشرق أسيا والخليج العربي والمنطقة المسماة بالشرق الأوسط الكبير.
أي أن مبدأ توازن القوى الذي اعتمدته الولايات المتحدة يعتمد على نفوذها خارج حدودها وسيطرتها على النظام السياسي والاقتصادي الدولييْن وقد شكلت هذه السياسة والأطماع الأمريكية في ثروات العالم والهيمنة على الاقتصاد العالمي اخطاراً كبيرة ألقت بظلالها وبأضرارها وكلفها الباهظة على العديد من دول العالم، وبخاصة تلك الدول التي تعرضت إلى الغزو العسكري الأمريكي، كـ افغانستان 2001، والعراق 2003، وسورية مؤخرا بشكل غير مباشر ومباشر احيانا.
وأقامت أمريكا قواعد عسكرية لقواتها في مناطق عديدة من العالم ،للحفاظ على مصالحها ولمنع ظهور زعامات أوروبية أو روسية بذريعة الدفاع عن وحدة أراضيها.
وعملت الإدارات الأمريكية المتعاقبة كل ما بوسعها لإدامة تفوقها وتوسيع نفوذها الجيوسياسي دون النظر إلى أن السياسة الدولية متحركة والظروف والأوضاع في العالم قابلة للتغيير وهذا ما حصل، ويحصل، فعليا بعد استعادة روسيا الاتحادية لدور الاتحاد السوفياتي ؛ الذي طالما نافس الولايات المتحدة وخاض معها حرباً باردةً استمرت من أربعينات القرن الماضي وحتى الأعوام الأولى من تسعينات القرن ،وذلك لأسباب عسكرية واقتصادية وأمنية تتعلق بمناطق الصراع، شرق أسيا وشرق أوروبا ومنطقة “الشرق الأوسط الكبير” نظرا لأهمية هذه المناطق الجغرافية والاقتصادية.
لقد استعادت روسيا الاتحادية دور الاتحاد السوفياتي بعد أن تحسنت أوضاعها الاقتصادية والعسكرية وبعد أن تولى قيادة روسيا الثنائي الطموح بوتين- ميدفيدف، حيث بدأت هذه القيادة العمل على بناء قوتها لاستعادة النفوذ لمواجهة الأطماع الأمريكية وأخطارها حيث تواصلت مع الصين والهند وإيران وباقي دول “البريكس” ومنظومة “شنغهاي” للحد من هذه الأطماع والهيمنة والنفوذ الأمريكي الذي اقترب فعليا من حدودها.
وتجسد الخطر الأمريكي بنشر منظومة الدرع الصاروخية قرب الحدود الروسية في تشيكيا وبولندا وأخيرا في تركيا، ما جعل روسيا الاتحادية تعمل على تطوير قدراتها العسكرية وبخاصة تلك التي ورثتها من الاتحاد السوفياتي وفي المقدمة منها النووية ، وأصبحت بذلك روسيا قوة عظمى جديدة كسرت أحادية القطبية واعادت توازن القوى في الساحة الدولية،رغم محاولات الولايات المتحدة العمل على حصار روسيا عبر بعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق والسيطرة على هذه الجمهوريات اقتصاديا وعسكريا، حيث أقامت على أراضي هذه الجمهوريات قواعد عسكرية وعملت على ضم العديد منها إلى مجموعة دول الاتحاد الأوروبي؛ الحليف للولايات المتحدة ، وشكلت مع دول هذا الاتحاد حلفا عسكريا “حلف الناتو” الموجه بالأساس إلى القوة الروسية.
وقد وجه الرئيس الروسي بوتين انتقادات شديدة إلى سياسة الهيمنة الأمريكية على العالم، مؤكدا هذه السياسة تشكل خطرا كبيرا ليس على أمن روسيا فحسب بل على أمن العالم واستقراره .. الأمر الذي دفع القيادة الروسية لرفض الهيمنة والعمل على إنهاء دور القطب الواحد والنظام العالمي الجديد الذي أقامته الولايات المتحدة الأمريكية ، واتبع بوتو كلامه هذا بالأفعال، حيث عمل على تطوير القدرات العسكرية لروسيا الاتحادية وبخاصة المتقدم منها كالصواريخ العابرة للقارات وتلك المضادة للصواريخ لمواجهة أي خطر ، كما أقدمت روسيا على تسليح اسطولها البحري برؤوس نووية كإجراء دفاعي ، وخلق رعب يحول دون إقدام الولايات المتحدة ومعها دول حلف الناتو على مغامرة مجنونة تلحق اشد وأفدح الأخطار بالبشرية.
كما عملت روسيا على مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية إقتصادياً ، في مجالات الطاقة وبخاصة النفط والغاز وطرق إمداده ، سيما وان الولايات المتحدة تستورد أكثر من 60% من حاجتها لهذه الطاقة من الخارج ، وبخاصة من الدول المحاذية لروسيا الاتحادية، سواء أكانت هذه الدول في شرق أسيا أم في المنطقة المسماة بالشرق الأوسط ، وقد تجسدت هذه المواجهة عبر قيام روسيا بالتحكم بجزء من الإمدادات النفطية لأمريكا في بحر قزوين واسيا الوسطى.
ما سبق يعني تجدد الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا ، وهذه المرة ليس صراعاً باردا بل صراعا ساخنا مبنيا على المصالح الاقتصادية الحيوية للطرفين، كما جاءت الأزمة السورية لترفع وتيرة الصراع السياسي وحتى العسكري بين الولايات المتحدة الأمريكية ومن معها من الدول الغربية وبخاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا من جهة وروسيا الاتحادية ومعها الصين وإيران وسورية ، وكل مجموعة دول “بريكس” من جهة أخرى .
كما تجسد الصراع باستخدام روسيا والصين لحق الاعتراض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي، ما حال دون تحقيق أهداف الدول المعادية لسورية والأمة العربية والمحافظة على امن الكيان الصهيوني.
واتجهت روسيا والدول الصديقة الأخرى إلى بذل الجهود من اجل الحفاظ على امن سورية والمنطقة وعلى أمنها هي أيضاً عسكرياً وسياسياً ، وصولا إلى حل سياسي للازمة السورية ، حيث ترى روسيا أن الحل العسكري الذي حاولت الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى والدائرين في فلكها من عملاء المنطقة ودول أخرى في العالم ، فرضه ـ سيزيد من توتر وعدم استقرار المنطقة وقد يفجر حربا كارثية على المنطقة والعالم ، ويمكن أن تلحقه هذه الحرب من أضرار جسيمة بالأمن والإستقرار الدولي.
لقد انتهجت روسيا الاتحادية ومعها الحلفاء سياسة حكيمة في معالجة الأزمة السورية ، ما جعلها ترفض كل استهداف لسورية سواء أكان هذا الاستهداف أمريكيا عسكريا ام سياسيا غربيا أم إقليميا أم عربيا عبر انظمة عربية واقليمية، مؤكدة على الدوام على الحل السياسي وعلى وقف تسليح الإرهابيين وتهريبهم إلى الداخل السوري ، حيث يمارسوا القتل والتخريب والتدمير وارتكاب المجازر البشعة بحق المواطنين العرب السوريين.
ووقفت روسيا إلى جانب الدولة السورية شعبا وقيادة خاصة وان القيادة قد أنجزت العديد من الإصلاحات السياسية والديمقراطية تمثلت في صياغة دستور جديد وقانون أحزاب وانتخاب وأجرت انتخابات بلدية وبرلمانية. كما أن روسيا تعرف تماما أن من بين أسباب استهداف سورية إخراجها من المنطقة ومن البحر الأبيض المتوسط حيث القاعدة البحرية في ميناء طرطوس السوري، وحرمانها من ثروات المنطقة وبخاصة الغاز.
على أية حال، لقد فقدت الولايات المتحدة الأمريكية تفردها بالعالم وظهر القطب الأخر المنافس والمصارع والمقارع، روسيا الاتحادية، ولكل قطبٍ أنصار.
وقد شهدنا في الايام الماضية تهديدات أمريكية لسورية وقد ردت عليها القيادة الروسية بنشر المزيد من الصواريخ والطائرات والسفن الحربية تحذرها وتجعلها تتراجع عن الحماقات التي ستلحق اضرارا بالمنطقة والعالم وبقواعدها العسكرية في المنطقة.