جمال عبد الناصر الغائب الحاضر

بقلم : عبدالهادي الراجح

بقدر ما كان لزعيمنا جمال عبد الناصر اثناء حياته نصيب وافر من الهيبة والوقار والزعامة وعبقرية القيادة التي وهبها اياه الخالق، فقد كان ذات القدر بعد أن اختاره الرفيق الأعلى لجواره قبل 46 عاما وهو في عز عطائه وقدرته على العمل من أجل تحقيق رسالة الأمة التي نذر نفسه من أجلها وهي الوحدة والحرية والاشتراكية والكرامة الانسانية .
رغم الهيبة والوقار فقد تعرض الزعيم جمال عبد الناصر لخيانة أقرب الناس اليه وتلك قصة ( يهوذا الاسخريوطي ) انور السادات الذي انقلب على جمال عبد الناصر قبل أن يمر عام على وفاته ووضع خيرة أبناء مصر في السجون والمعتقلات، اما الطعنة الأخرى التي تعرض لها فقد سبقت تجربة السادات وهي ثقته برفيق عمره المشير عبد الحكيم عامر رحمه الله الذي لم يخلو من الضعف الانساني أمام مغريات الحياة.
لقد تعرض الزعيم بسبب مشروعه لكل أنواع الحرب غير الشريفة حيث ارادوا ان يهيلوا التراب على مشروعه من داخل وطنه الحبيب مصر قبل غيرها، وهذا ما قام به أنور السادات وبدعم من كل أعداء الأمة، وكانت هناك الحرب الاعلامية الشرسة التي لم تترك خطأ أو انحرافا من عصر الفراعنة إلا ووجدنا من يصرخ كالثور الهائج طمعا بالمال والمنصب قائلاً، بأن جمال عبد الناصر هو السبب.
وفي سياق هذه الحرب قالت التقارير ان مثقفي البترودولار نسبوا اليه حتى النكبة العربية الكبرى بفلسطين عام 1948م، وهذا الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز قدم مائة مليون دولار لتغيير مناهج الأزهر الشريف وإخراجه من الوسطية الاسلامية للرجعية والتخلف الوهابي وللأسف نجح بذلك .
ان هذه الاسباب وغيرها الكثير تدعونا نحن المؤمنين بعروبتنا وناصريتنا وحتمية وحدتنا التاريخية أن نستذكر جمال عبد الناصر كأعظم تجربة نضالية انسانية عرفتها الأمة العربية والنموذج الذي نراه لا يزال هو الطريق الصحيح والناصرية كما هو معروف ولدت بعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر وإيمانا برسالته ونهجه ، وهذه الرسالة كانت موجودة قبل جمال عبد الناصر ولكنه كان الأصدق في حمل أمانتها والأكثر اخلاصا في ادائها والنضال من اجلها وهو من جعل العمل السياسي يصبح في الشارع والميدان بعد أن كان حديث من اتقن دوره في الصالونات السياسة ، وقيمة ما فعله أن جعل الشارع يتفاعل مع سياسته ، وعندما خانته النخب أو من يسمون أنفسهم كذلك كان الشعب هو سنده حدث ذلك أثناء العدوان الثلاثي الذي جعل أحد أقرب المقربين اليه وهو من الضباط الأحرار ينصحه أن يسلم نفسه للسفارة البريطانية، وكان للشعب والشارع رأي آخر وهو من انتصر وجعل دول العدوان تدفع الثمن سياسيا وأخلاقيا، وحدث بعد ذلك وبأكثر فظاعة بعدوان حزيران /يونيو عام 1967، لكن الشعب هو من رفض وقاوم وخرجت الملايين تطالب ببقاء جمال عبد الناصر ليس في مصر وحدها ولكن في كل بلاد العرب والأحرار في العالم .
لذلك نشعر بالتقصير عندما نتحدث عن جمال عبد الناصر، فهو فوق كل الكلمات، وأن الحروف تتواضع حين نسطرها بذكراه العطرة ، ونذكر ان أميرا كويتيا كان معارضا لسياسة جمال عبد الناصر اثناء حياته اغضبه ان يساء لهذا الزعيم بعد وفاته حيث صرخ بوجه أنور السادات أثناء زيارته للكويت قائلا ما الذي تفعلونه باسم الزعيم جمال عبد الناصر في مصر، واستطرد ذلك الأمير قائلا كما تعلم أننا كنا من المختلفين مع سياسة جمال عبد الناصر، ولكن شئنا أم أبينا هو رمز العرب ورمز الاستقلال والكرامة العربية والأكثر حضورا في الشارع العربي وحتى خارج العالم العربي، وأنتم لا تسيئون لمصر وحدها (مشيرا للحملة الظالمة على جمال عبد الناصر داخل مصر) بهذه الخزعبلات ولكنكم تسيئون لكل العالم العربي وكأنكم تقولون للعالم أجمع لا أحد يصدقنا انظروا ماذا نفعل حتى بقادتنا العظام بعد رحيلهم ، فما كان من السادات إلا أن اعتذر وقال بأنه سيتصرف ولكنه لم يتصرف وكان كاذبا كعادته ، واستمرت الحملة على جمال عبد الناصر وزادت حقدا وكراهية وجندت الاقلام وكل من يبيع نفسه وفبركت القصص حتى ان صناع السينما والتلفزيون والمسرح دخلوا على الخط بهدف الاساءة للزعيم الكبير.
ومن هؤلاء الأديب الكبير نجيب محفوظ الذي نال جائزة نوبل للآداب بسبب بعض رواياته التي هاجمت المرحلة الناصرية رغم أنها نشرت في كبرى صحف الدولة التي يقودها جمال عبد الناصر ولم يعترض عليه أحد، وفكري اباظة الذي كتب ”شيء من الخوف”، وجلال الدين الحماصي في كتابه السخيف حوار وراء الاسوار، والجاسوس الأمريكي من أصول مصرية مصطفى أمين الخارج من السجن بتهمة الخيانة وبتوصية من كيسنجر الذي أصبح مرجعية السادات السياسية وشقيقه على أمين وأنيس منصور رسول الخيانة الساداتية للصهاينة والشاذ محمد جلال الكشك صاحب كتاب ( ثورة يوليو الأمريكية) وغيرهم الكثيرون، والغريب أن اكثر هؤلاء- اذا لم يكونوا جميعا- كان لهم في الزعيم جمال عبد الناصر رأي اخر اثناء حياته وذلك خلاف ما يزعمونه بكتبهم وهذا موجود ومثبت في كتاباتهم لكل من يريد أن يعرف ماذا يفعل بيع الضمائر وعندما يخون الانسان فكره حيث انتظروا موت الزعيم ليظهروا معارضتهم المزعومة وشجاعتهم وتباكيهم المزعوم على الديمقراطية التي أهدرها عسكر جمال عبد الناصر ، انهم يحنون لزمن العبودية عندما كان السفير البريطاني هو الحاكم المطلق لمصر وحادثة 4 فبراير /شباط 1942م ، أكبر دليل على ذلك.
ان الحملة المشبوهة على جمال عبد الناصر لا تستهدف شخصه ولكنها تستهدف مشروعه الذي استقطب جماهير الأمة العربية فاجمعت عليه من محيطها لخليجها، ومن شذ عن ذلك كان محميا من الدبابات الامريكية والبريطانية ، وكان يعمل من الامة كما تفعل اليوم دويلة قطر من خلال بوقها الاعلامي قناة الجزيرة وباقي المحميات التي لا تختلف عن فضائيتي الجزيرة والعربية شيئا .
لذلك، فان الحنين للزعيم وعصره واستذكاره دائما لا يأتي من فراغ، والكتابة عنه ليست مناسبات أو ترفاً فكرياً، ولكن لأجل استحضار تلك التجربة الانسانية الغنية بالنضال والكفاح ومقاومة الاستعمار وأعوانه، وذلك يحتاج لمجلدات وليس اشارات في ذكرى رحيله أو ميلاده أو احدى انجازاته وما أكثرها.
الذكرى السادسة والأربعون لرحيل جمال عبد الناصر تستدعي منا الوقوف والتأمل خاصة أن أمتنا منذ رحيله المفجع قبل 64 عاما لم تتوحد لها كلمة والاستعمار الذي حاربه وطرده جمال عبد الناصر من العالم العربي وساعد على طرده من القارات الثلاثة يعود اليوم ويصبح وجوده مطلبا من بعض الأنظمة الناطقة بالعربية .
لذلك – يجب ان يكون استذكار جمال عبد الناصر عملا ونضالنا ونموذجا لأنه هكذا كان، فقد عاش وعمل واستشهد من أجل وطنه وأمته .
وفي ذكرى رحيله نعاهد روحه الطاهرة أننا سنعمل على تحقيق رسالته وما ناضل من أجله، رحم الله الزعيم جمال عبد الناصر الذي كان أمة في رجل ، وما أبلغ شاعرنا الكبير نزار قباني رحمه الله حين قال تضيق قبور الميتين بمن بها وأنت كل اليوم في القبر تكبر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى