رؤى افتراضية لمحاورة الأزمة العربية!
بقلم : اسماعيل أبو البندورة
تزداد الأزمة العربية استفحالاً في المرحلة الراهنة ” ويتسع الخرق على الراتق ” كما يقال ونجدنا في حالات معينة أمام ظواهر وتجليات ومستجدات مبهمة لا نجد لها أوصافاً أو تشخيصاً معقولاً يحدد سماتها وأسباب نزولها ، ونحار فعلاً في استكناه طرق فهمها واستيعابها وسبر أغوارها، وتحدونا الرغبة والضرورة في الوقت نفسه في محاورتها وتفكيكها ووضعها على طاولة الحوار والمجادلة علّنا في ذلك نتبين ونحدد الخيط الأبيض من الأسود فيها، ونستبين الطريق للخروج من عنق الزجاجة واختراق حواجز الانسداد والاستعصاء .
وليس بالمستطاع من الناحية المنهجية التحليلية ملاحقة هذا التاريخ المباشر المتغير والمتسارع والمتبدل أمامنا في كل لحظة في هذا الواقع المشظى ولا تتبّع الفكر اليومي الذي ينتج ويفرد تفاصيل وجزئيات منوعة ومتراكمة لا يمكن ملاحقتها وتكثيفها وإدراجها في أطر قابلة للمراجعة والمقاربة الشمولية وتؤدي أحياناً وحكماً إلى متاهات في الكشف والتحليل، أو هي تؤدي إلى تطاير وتبعثر وضياع ما هو جوهري فيها وتوزعه على شذرات وشطحات لا تصلح أن تكون خطاباً أو جوابأ أو اختراقاُ لفكر وواقع الأزمة وتجلياتها .
ويبقى لنا المتاح والممكن في أن نتناول الكليات والخطوط العامة والجوهرية في الأزمة، ونحدد أطرها وطرق اشتغالها وكيفية مقاربتها وبأي منهج نحللها، ولأن الخطوط العامة متعددة ومتراكمة ومتداخلة، ولذا فلا غرو أن نعمد إلى طرق انتقائية في التأشير على بعضها فنأخذ من بينها ما يشكل الخلفية العريضة والمؤثرة فيها لكي نستمد ونتفهم من ذلك التفاصيل الكثيرة والمتفرعة عنها والمكونة لها.
وأول ما نتناوله في هذا الاطار هو هذا الانكشاف والانخساف للدولة القطرية الفاشلة (الدولة الأمنية – الزبونية – المافياوية – الفاشلة) ومحاولتها إعادة بناء ذاتها بطريقة ترقيعية – ترميمية – انقاذية بعد تجاوزها الصدفوي الصعب لعاصفة ” ما أطلق عليه الربيع العربي ” وكوارثه، واضطرارها إلى إجراء إصلاحات سياسية شكلانية واعتمادها ثقافة سياسية ابتذالية مرذولة ورثّة تقوم على التخويف والتهويل وإجراء المقارنات السقيمة مع ما حدث في بعض الدول العربية من دمار ومساومة الناس على نتائجها وتهديدهم بمخاطر النتائج المأساوية والمآلات الممكنة للانتفاض والثورة عليها تحت عنوان الصمت أو الخراب !
وقد أنشأ هذا المأزق في المخيال الشعبي برهة محيرة ”أزموية ” وسؤالا غريباً بأن نقبل هذه الثقافة السياسية التهويلية الترهيبية ونرتضي الاستمرار في قبول الفساد والاستبداد وكل ما هو قائم، أو نلوذ بالصمت والقهر والدروشة والتحول إلى كائنات ممسوخة وعاجزة لا رأي لها ولا قرار وبدون حاضر أو مستقبل، ونلغي وجودنا الواعي ونقتل طموحاتنا وأشواقنا الوطنية والقومية، ونتنازل عن انسانيتنا وعقلنا مقابل فتات أجرد تقدمه لنا سلطات عاجزة وخائبة متمرغة في الفشل والانكسار .
أما الأمر الآخر الذي نراه جوهرياً في المرحلة الراهنة ويشكل عنصرا من عناصر الأزمة فهو تحلل الهوية وبهوتها لدى السلطات والأنظمة العربية، وتفكك العلاقات والمؤسسات القومية إذ لا مرجعيات هناك تحاور الأزمة ولا مؤسسات قومية (مثل الجامعة العربية على سبيل المثال ) يمكنها أن تقدم المبادرات وتدعو إلى وحدة الموقف العربي وتضبط إيقاع العمل العربي المشترك ، وتجترح وسائل وطرائق لوقف التراجع والانهيار وإعادة الاتزان للنظام العربي .
إذن غياب الدولة بمعناها التاريخي وتحولها الى سلطة، وحضور وجهها التسلطي المضاد لمعناها التكويني والوظيفي الأصيل أحدث شرخاً وإبهاماً في التعامل معها، وخلق صوراً من اللامعنى في كينونتها واللاطمانينه في تقبل سلوكها السياسي ومغازيها السلطوية، وأوجد في الضمائر والعقول عدم ثقة مزمنة وراسخة بها في الوعي أو اللاوعي لا يزال يترك آثاره الضارة وتداعياته على صعيد الواقع .
كما أن التباس سؤال الهوية القومية بالضمور الذاتي الناتج عن التراجع والانسداد والمؤثرات الخارجية الساعية إلى طمس هذه الهوية وإحلال هويات هجينة مكانها وانهيار المؤسسات واختلال المرجعيات القومية، قد ولّد تشوهات خطيرة في الواقع العربي، وخلق فراغأ هائلا أتاح لكل القوى الطامعة والطامحة لأن تبادر إلى تعبئته بمشاريعها وخططها الجديدة وأن ترى الوطن العربي أرضا منخفضة يمكن أن تجري فيها وعليها كل الاختبارات والاندفاعات الخارجية، وأن تؤسس عليها امتداداتها ونفوذها وتطلعاتها العالمية.
حالة الضياع هذه تخلق وضعاً سايكولوجياً مرضياً إلى حد كبير يبدأ من السؤال عن معنى أن يكون المرء عربياً في اللحظة الراهنة، وعن الأفق التاريخي المفتوح أمام عقل الأمة العربية وهي في شرنقة أزمتها الراهنة، وعن المشروع القومي النهضوي الذي يمكن أن تطرحه وتدافع عنه ليكون أرضية منطقية وعقلانية لمحاورة الواقع العربي ومحاورة أزماته المستعصية.
قد يبدأ الحل الافتراضي بوضع تعريفات جديدة للوجود العربي ( الذات والآخر ) وللهوية القومية العربية أو تجديد الحديث عنها وعن معناها الحافز برؤى نقدية متجددة ولمفهوم الدولة التاريخي – المؤسسي النقيض لدولة الفساد والاستبداد والتسلطية ولمفهوم المواطنة، وقد تحاصر هذه التعريفات بعض الأغاليط الجديدة وتسهم في تجنب كل أشكال التطرف والمروق الوطني والقومي، وقد تكون مقدمات لمحاورة الأزمة العربية بمفاهيم ومناهج ورؤى جديدة وبعقل يدرك أهمية بناء الذات بناءً عقلانياً، ووضع مرجعيات فكرية يمكنها أن تحدد أطر الحوار والتجديد في الواقع العربي، وخلق الفضاءات المناسبة لحوار عربي – عربي حول الأزمة العربية وكيفية الخروج من شرانقها المتشابكة والمعقدة.