حُلُم المُدُن المهجورة
بقلم : إنصاف قلعجي
يحملُ جرحَه المغسولَ بالدم.. ويرحل. يحمل شقفةً من رحم بلاده.. ويرحل. يحمل قطرة من نهر بلاده.. يروي بها ظمأ الليالي الطويلة المريرة. والذاكرة متعِبة، حين تهرهر الأيام التي كانت، فيلتقطها الغريب في غربته.. ويذرف دموعه بصمت.
هي رحلة الشقاء التي عاناها أوديسيوس ملك إيثاكا اليونانية، كما رواها هوميروس في ملحمة الأوديسا، فأوديسيوس، وبعد انتهاء حرب طروادة يسعى للعودة إلى إيثاكا حيث تنتظره زوجته بينيلوب التي تحيك ثوب الزفاف وعدا منها للنبلاء الذين كانوا يسعون للزواج منها، بأنها ستتزوج أحدهم حين ينتهي الثوب. وتفرط ما أخاطته في النهار.. بانتظار عودة زوجها. وفي طريق عودته، يغضب عليه إله البحر بوسيدون فعاقبه بأن تاه في البحر عشر سنوات لاقى خلالها الأهوال.
إيثاكا، هي الحلم البعيد الذي يشخص إليه القلب قبل العين. ورغم أن المسافات تطول، إلا أن الحلم المليء بالصور الجميلة، ينير الطريق، ويتحمل المشتاق كل الصعاب لأجل الوصول.
يقول الشاعر اليوناني الحديث قسطنطين كفافيConstantine Cavafy وهي القصيدة التي ترجمها عن الفرنسية بشير السباعي:
لتكن إيثاكا في روحك دائما
الوصول إليها قدرك
لكن لا تتعجل انتهاء الرحلة
الأفضل أن تدوم سنوات طويلة
وأن تكون شيخا حين تبلغ الجزيرة
ثريا بما كسبته في الطريق
غير آبه أن تهبك إيثاكا ثراء
…
لقد ألهمت أسطورة إيثاكا كثيرا من الشعراء والكتّاب والروائيين، يقول الكاتب أحمد بوزفور في كلمته على غلاف رواية” الإبحار إلى إيثاكا ” للكاتب المغربي عمرو القاضي والتي قام بدراستها الناقد المغربي الدكتور مزوار الإدريسي:(إن لكل واحد منا إيثاكاه. والحياة هي إبحار نحو هذه الإيثاكا، ولا ندرك إلا في آخر الحياة أن إيثاكا وراءنا لا أمامنا، إيثاكا ليست مرفأ نرسو عليه، بل هي الماء الأزرق الذي نبحر فيه). ويقول الناقد الإدريسي بأن الرواية” منخرطة بجرأة عالية في لحظتها التاريخية، نجحت بفنية رصينة في التعبير عن زمانها، والقبض على كثير من معيشه، إذ ليس ثمة في الظاهر ما هو أكثر وضوحا وواقعية وقابلية للمس من اللحظة الحاضرة. ومع ذلك فإنها تفلت منا كليّة، وقلة هم الذين يفلحون في رسم معالمها، منهم عمرو القاضي دون ريب، وهي رواية لا تقف عند حد الشهادة على واقعها، بل هي تتويج درامي متفائل لصراع تعيشه ذات البطل الواقعية بسيناريوها والحالمة بتغيير يتجاوز اليأس والأمراض الاجتماعية والموت وغيرها من المثبطات. إنها انتصار للحلم. إذ يخلص عوليس بعد أن انتصر”السيناريو” الذي روّج له، إلى أنه كان” كمن يحلم داخل رحم أمه. أصحيح كنت أحلم داخل رحم أمي”؟”.
لكن إيثاكا، ليست فقط الحلم الذي سيأتي، لكنها حلم المدن المهجورة التي تضج بالحنين والشوق، المدن التي دمرها الأعداء، وفي مقدمتهم الغرب الاستعماري، وسلبوا ذاكرتها وتاريخها، وشتتوا أهلها وأحالوها صورا تشبه غيرنيكا بيكاسو. فبقيت صور المدينة القديمة، والحلم يتراوح بين ماض جميل وحلم لمستقبل قادم، والحاضر يتجرع فيه الغريب مرارة لاذعة، وكل الذين رحلوا ينتظرون العودة لحلم جفّ فيه الدم.
في غربته وحنينه إلى بغداد، يسأل الشاعر:
يسأل عوليس.. إلى أين سأمضي؟
كلما اقتربتُ من أسئلتي.. تبعدُ إيثاكا
تعبتُ..
كلما اقتربتُ منها.. ابتعدتْ
ما عدتُ أختارُ العشيّات لألقى من أُحبُّ
في رحابها..
أو أُبعِدُ العناكبَ الفظّةَ عن أبوابها
تغدو الكوابيسُ إذا ما اقتربتْ منها.. دليلا حذرا
في ليلها أرى الدمَ المُراقَ في عليائه..
على القبابْ
وفي النهار.. تملأُ الشوارعَ الخائفةَ الذئابْ
أيتها المدينة التي ما دجّنتها الخطبُ العصماءْ
ولا العمائمُ التي يضجُّ في طيّاتها الرياءْ
ولا الأكاذيب التي تئن منها.. الكتبُ الصفراءْ
لربّما يدقُّ بابَ الريحِ عوليسُ..افتحي
أيتها المدينة التي.. تسهرُ بانتظاره..
الأبوابْ
( الشاعر حميد سعيد من ديوان”أولئك أصحابي”2015)