قانون حظر البعث مهزلة سياسية لن تستمر طويلا
بقلم : هارون محمد/العراق
قانون اجتثاث البعث يمثل مهزلة سياسية وأخلاقية، تجسد عقلية معلبة بالظلامية، وتعكس منهجا انتقاميا لا يقوى على الثبات بالتأكيد، في مواجهة العصر الحديث وما يحمله من مفاهيم ديمقراطية وتعددية, لأن المتحكمين بمفاصل السلطة في العراق، جهلة ومتخلفون ولا يفهمون في السياسة غير أنها سلعة تدر عليهم أرباحا مليارية ومكاسب طائفية وامتيازات شخصية وعائلية وحزبية، فإن اللصوصية والأحقاد والثارات، أعمت بصرهم وقادتهم إلى تشريع قانون حظر حزب البعث وإضافة مواد جديدة إليه، ليتحول إلى نكتة يتداولها العراقيون تهكما عليه، في زمن غاب فيه الضحك وذبلت الابتسامات، وحلت بدلا عنهما، الكآبة والأوجاع.
ومن يقرأ القانون ويتمعن في نصوصه وأبوابه، لا بد أن يلحظ أن حزب البعث الذي قوضت الولايات المتحدة الأميركية سلطته في التاسع من أبريل/نيسان 2003 وأعدمت رئيسه واغتالت قادته واعتقلت كوادره واجتثت الملايين من أعضائه، مازال يشكل هاجسا يقض مضاجع أهل الحكم الذين انبطحوا للرئيس الأميركي جورج بوش تذللا، وركبوا دبابات دونالد رامسفيلد جبنا، وصاروا رؤساء ووزراء ومسؤولين ينزَوُون في المنطقة الخضراء يسرقون وينهبون، ولكنهم يشعرون أن شبح حزب البعث مازال يخيم على رؤوسهم ويتربص بهم، وتصوروا أن إصدار قانون يعاقب حتى مشاعر الحنين إلى سنواته، ربما يطوي صفحاته من الذاكرة العراقية ويغيّب أعوام حكمه الخمسة والثلاثين التي تركت – شئنا أم أبينا – صورا لو قورنت بما جرى خلال سنوات الاحتلال الأميركي وحكوماته المتعاقبة من خراب ودمار وطائفية، لظهرت بهية وجميلة رغم الحروب والحصار والدكتاتورية.
ولسنا هنا في معرض الدفاع عن حزب البعث، ونحن عارضنا نظامه، وتحملنا ثمن مواجهته، اعتقالا وملاحقات استمرت سنوات، في حين كان قادة أحزاب تحكم اليوم، يمرحون في صف سلطته ويشغلون مواقعهم الوظيفية بأريحية ودعم من تنظيماته، أمثال نوري المالكي في تربية الحلة، وإبراهيم الجعفري في صحة كربلاء، وعادل عبدالمهدي في وزارة الخارجية، فيما كان آخرون ينزلون إلى بغداد على ضيافته ومنهم جلال طالباني وفؤاد معصوم والملا بختيار وآخرون، ويتلقون الهدايا والمكافآت والسيارات من قادته، بينما انخرط بعض آخر في أجهزته كوكلاء ومتعاونين، يكسرون رقاب الناس بتقاريرهم وممن عادوا إلى العراق عقب الاحتلال، ليقتلوا من جندهم من رجال الأمن (قضية ضابط الأمن عدنان نبات الذي خُطف من منزله في حي السيدية ببغداد وقتل مع شقيقه مدير زراعة جبلة السابق في بساتين الهندية بطريقة بشعة هي المثال الأبرز والأشهر)، وإنما يدفعنا إلى التنديد بهذا القانون، لأنه يمثل مهزلة سياسية وأخلاقية، تجسد عقلية معلبة بالظلامية، وتعكس منهجا انتقاميا لا يقوى على الثبات بالتأكيد، في مواجهة العصر الحديث وما يحمله من مفاهيم ديمقراطية وتعددية باتت تشكل طموحا مشروعا للشعوب والأمم لا يمكن وقفه، حتى لو استخدم الحاكمون كما في العراق، كل أساليب البطش والقهر ضد الشعب.
ولأن البعث حزب له تاريخه في الحياة السياسية العراقية، وضم على مدى أكثر من ستين عاما، الملايين من العراقيين اقتناعا أو تقربا، وحكم فترتين الثانية منهما استمرت خمسة وثلاثين عاما، أنتجت جيلين من البعثيين على أقل تقدير، فإن مسألة اجتثاثه هي في الحقيقة عبث أطفال سياسة، ومن الصعب شعبيا هضم حظره بقانون لا يساوي ثمن ورق كتابته.
بالعكس فإن تشريعه ورقص قادة حزب نوري المالكي ومجلس آل الحكيم وزبانية اليعقوبي وأتباع الحزب الإسلامي على أنغامه الكئيبة، سيمنحانه زخماًأكثر من السابق خصوصا وأن العراقيين مولعون بطبعهم بالمقارنة بين العهود والأنظمة والحكومات التي مرت عليهم، وقد يقبلون بحكام دكتاتوريين، إذا نعموا بالأمن والأمان في ظلهم، كما حصل في أزمنة مضت، ولكنهم لا يطيقون اللصوص من حكامهم ودعاة الطائفية والكذابين، لذلك فإن أهزوجة شعبية تقول (يا صدام رد لينا.. من الجذب ملينا) باتت تجد أصداء واسعة في محافظات الجنوب والوسط، أكثر من باقي المحافظات، مع معرفة أكيدة بأن صدام حسين مات وشبع موتا، ولكن المخيلة الشعبية العراقية تعود إلى الماضي القريب، في دلالة واضحة للنفور من حكام اليوم الذين يكذبون ويعتاشون على النفاق والطائفية والفساد.
في كتابه الذي تُرجم إلى لغات عدة منها العربية، يقول المستشار الألماني الأسبق كونراد أديناور، الذي كان واحدا من بُناة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، إن فكرة استبعاد العلماء والخبراء الذين خدموا في عهد أدولف هتلر راودتنا ونحن نسعى إلى نهضة بلادنا بعد ما حصل لها من كوارث ونكبات، ولكننا اكتشفنا أننا بأشد الحاجة إلى خبراتهم وتجاربهم في عملية إعمار ألمانيا، وتفهمنا أنهم خدموها بدوافع وطنية وقومية تقدمت على نازيتهم وحبهم لهتلر، فاستعنا بكثير منهم قدموا جهودا وتضحيات في بناء ألمانيا الجديدة على أنقاض الخراب، مع إشارة ساخرة إلى أميركا التي فرضت قانون اجتثاث النازية في ألمانيا، حيث يقول: “إنها استقدمت مبدعين ألمانا في الهندسة والطب والعلوم من وراء ظهورنا وعينتهم في مصانعها ومؤسساتها”.
والمصيبة أن سياسيي الصدفة ومقدمي برامج الفضائيات الشيعية، راحوا يربطون بغباء بين اجتثاث النازيين في ألمانيا واجتثاث البعثيين في العراق، دون أن يدركوا أن اجتثاث ألمانيا اقتصر على جنرالات الحرب ومسؤولي أجهزة الدعاية والقمع، ولم يشمل عالما في الذرة أو خبيرا في تصنيع الأسلحة والطائرات والصواريخ، ولم يعاقب مهندسا بنى ثكنات وخنادق عسكرية، ولم يحاسب أستاذا أو مدرسا ألقى محاضراته وفق المنهج المقرر، ولم يعزل مدراء مدارس ومعاهد كانوا يبدأون يومهم الدراسي بتحية “هاي هتلر”، ولم يطرد موظفا أو مستخدما أو عاملا في مقر هتلر، بينما اجتثاث بول بريمر وأحمد الجلبي ونوري المالكي وجلال الصغير ومثال الألوسي، شمل الآلاف من أهل الكفاءات والخبرات والأساتذة والموظفين، وأحل مكانهم حثالات وأنذالا وعملاء وسفلة ونشالين وملالي، مازال بعضهم (يبصم) بختم يحمله في عبه، ولا يعرف توقيع اسمه.