الفكرة القومية بين دعاتها ومعارضيها!
بقلم : اسماعيل أبو البندوره
أتردد أحياناً كثيرة في الرد على بعض التعليقات التي تكتب حول الفكرة القومية سواء من قبل دعاتها أو معارضيها لأن هذه الكتابات في الحالتين تتناول أفكارا نمطية عتيقة وكلاسيكية عنها تتوزع بين النقض والتهميش والتتفيه أو تعبر عن التقديس والافتخارية والوثوقية الايمانية وأراها لا تحاول المتابعة أو الإطلال على ما يكتب عنها ويحتل مساحات فكرية واسعة في مجالات ومؤتمرات ومراكز دراسات عالمية كثيرة ، وكأن الفكرة القومية قد توقفت لدى هؤلاء عند ما كتب عنها قديما في الخمسينيات والستينيات وتحوّلت تلك النصوص بأعرافها الى مقدسات وأنساق ثابتة وأصنام عقائدية لا تتطلب النقد والمراجعة ومتابعة الدراسات الحديثة والما- بعد حداثية التي تكتب عنها وخصوصا ما ظهر من أدبيات تفصيلية ونوعية عنها منذ عام 1989 وحتى وقتنا الراهن .
ومع أن العولمة التي استبطنت الأمركة حاولت واستطاعت إلى حد ما بحمولاتها واكراهاتها وهيمنتها الثقافية والسياسية أن تحتوي الفكرة القومية – بالمعنى التهميشي الإلغائي الاستخفافي – بمقولات وأفكار تلغي وتطمس معناها ودورها في حياة الشعوب والأمم بوازع من كوننة افتراسية لا تقدم البديل الفكري المنطقي عن القومية والانتماء والشعور القومي وتقتصر على أطروحات تبشر بعالم مشترك ومتداخل بلا سيادة وبلا هوية قومية وثقافية ويتأسس على معاني غامضة حول الوجود والتاريخ والمستقبل .
تعلم السياسي الإسلاموي التقليدي في بلادنا أن يرتل افكارا نمطية تكرارية عن القومية بربط القومية بالعصبية والعصبوية المشؤومة والقول عنها أنها “منتنة” مع أن السياق الذي قيلت فيه هذه العبارة أو هذا الحديث كان مغايرا تماما للمنطوق والمعنى والسياق المرتبط بها . أما السياسي الاسلاموي الحديث فيقول أنها من صنع الاستعمار جاء بها لإسقاط الخلافة العثمانية وإثارة العصبيات وتحويل الأنظار عن الدين لغايات علمنته وازاحته عن الحياة ، وفي تجلٍ آخر يضع القومية كنقيضة للاسلام دون أن يأخذ في الاعتبار طبيعة النشوء والأصل والدور والتكون التاريخي المختلف للقومية العربية التي اقترنت بالإسلام أساساً ، ويربط الاسلاموي بين الفكرة القومية والأقليات ” وأحياناً باليهود عندما يجري الحديث عن تركيا ” فيجد دعاتها وأنصارها ينتمون إلى أديان أخرى وأن لهم بالضرورة مقاصد أخرى تقويضية وتفكيكية معادية للدين الاسلامي وعقائد الأمة ، وعندما يريد الإسلاموي أن يسترسل ويمعن في الاتهام الاعتباطي غير المبرر يذهب إلى حجته القدحية التقليدية في أن يعزو إلى من عبّروا ويعبّرون عن القومية وفكرها ممن وصلوا الى السلطة أو تحت شعاراتها في بعض الدول العربية خطايا الانهيار العربي المديد وأن هؤلاء كانوا مثالا للخيبة وسبباً لهزائم الأمة المتكررة منذ عام 1948 وحتى اللحظة ونموذجا للفكر الشعاري الساقط المهزوم.
وتعلم الماركسوي أن القومية تنزلت خطاً على الأمم وكان من اللازم نزولها على الطبقات ووفقا لذلك ربط القومية بتطور الرأسمالية واحتياجاتها في البحث عن وحدة السوق وأعطى الأولوية للعامل الاقتصادي وبشر العمال بأن لا وطن ولا هوية قومية لهم دون أي تمييز أيضا بين نشوء تاريخي أصيل وآخر طاريء وتلفيقي ومصطنع للقومية وخصوصا في الدول من خارج العالم الأوروبي أو دول العالم الثالث وكانت تلك من الأغلوطات الكبيرة للفكر الماركسي التقليدي التي أسهمت في اساءة فهم المسألة القومية عموما وفي بلادنا بشكل خاص وأدت في الممارسة إلى الوقوف منها موقف الضد والنقض .
يغتبط هؤلاء وأولئك بهذا الوعي الفقير الملتبس المقتطع من سياقاته حول معنى القومية وتطور هذا المعنى ويسترسلون في هذا التنميط السياسي والواحدية التفكيرية ذات البعد الواحد ويجدون لدى بعض الأوساط الشعبية تأييدا متعجلا ورضىً شعبوياً ولا يقولون للناس لماذا لا يجد التركي والإيراني والإندونيسي تعارضا بين انتمائه لعقيدة كونية ورسالة دينية لكل الأمم وبين الانتماء لقوم ووطن وأمة ولا يطرح الأمر والسؤال عليه باعتبار قوميته متعارضة مع اسلامه وفي تجابه معه كما أن أوساطاً كثيرة لا تنزعج من صورة أتاتورك – العلماني المتأورب الثائر على الخلافة والعثمنة – تتصدر حائط قاعة لمؤتمر لحزب اسلامي عريض في تركيا ولا تتذمر من علمانية الحزب الاسلامي التي يشهرها ويدافع عنها بحرارة فائضة .
وتكمن المحنة في أن دعاة القومية لا يدافعون في المرحلة الراهنة عن أصالة وحقيقة فكرهم وضرورة تجديد الحديث عنه ولا يراجعون بعض جوانب فكرهم العتيق بالنقد والإضافة والتعديل والتجديد وبما تمليه وتتطلبه الضرورات والتغيرات السياسية والمعرفية الجارية على قدم وساق ومغاير بشكل كامل للمعهود والمألوف على الصعيد العربي والإقليمي والدولي ، وكذلك يفعل من يعارضون ويعادون الفكرة القومية من خلال مواصلة التمسك بأفكار نقضية جامدة ومتكلسة ووثوقية ترى في القومية شراً محضا مع أن دراسات هامة وغزيرة ظهرت في الكثير من مناطق العالم ( يمكن تخصيص مساحة واسعة للحديث عن غزارة الكتابات الحديثة عن القومية وراهنيتها ) من التي لا تزال تطرح موضوع الفكرة القومية وإشكالياتها وتعاين صحة أطروحاتها وبعض تجلياتها الجديدة على ضوء التصدعات الهوياتية الحديثة ، وتضيف اليها كل ما يتجلى من الظواهر الجديدة التي انبثقت بعد عام 1989 في لحظة استيقاظ القوميات في دول شرق اوروبا وتجدد الحديث عن الذات والهويات القومية والثقافية في عالم اصبحت فيه هذه الهويات تتحاور وتتصارع في الكثير من الاحيان من أجل الانبثاق والارتقاء والتبلور .
إنها صيغة من صيغ التباس المفاهيم واختلاطها والارتباك المفهومي لدى البعض وضحالة التناول وسهولة واستسهال المقاربة ، أو هي الاشكاليات الزائفة التي تطرح هنا وهناك بمجانية وبلا محددات وضوابط من أجل إعاقة عملية الاستنهاض القومي المطلوب راهناً ، أو هي عملية إعادة إنتاج لهذه الاشكاليات الزائفة لإبقاء وتكريس حالة دائمة من سوء الفهم والانغلاق على الآخر والانسياق وراء دعوات المروق والهروب من القومية والاستسلام لمشروع التفتيت المذهبي والعصبوي التحتي المتصاعد !