في حِمى الكتاب
بقلم : إنصاف قلعجي
إلى أين تولي وجهك في ظل هذه البشاعة والقبح؟ أين تتوارى من هذه الدماء العربية التي تسيل حتى تغمر روحك، قطع رؤوس، وبتر الحياة والغرق في دوامات لا نهاية لها؟
كيف تتمسك بتلابيبك بهذه الحياة على أمل، وعلى عسى ولعل سوى أن تبحث في ظلال الريح عما يواسي روحك الجائعة للتغيير.. للتجديد.. لشمس تحمل ضياء مشرقا؟
سوى في كتاب مثير..
رواية “ظل الريح” (2001) للكاتب الإسباني كارلوس زافون، وهي أول رواية له بعد أن كتب عدة روايات للناشئين وللأطفال. وقد صدرت حديثا بالترجمة العربية للمترجم السوري المبدع معاوية عبد المجيد، ومقدمة للكاتب والروائي المصري أحمد مجدي همام عن دار مسكيليانى في تونس. ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة، وبيعت منها ملايين النسخ. تدور أحداثها في منتصف القرن العشرين حيث قامت الثورة الأهلية الإسبانية. يصطحب سمبيري ابنه البالغ من العمر أحد عشر عاما(دانيال) إلى مكتبة سرية تدعى”مقبرة الكتب المنسية” ليختار كتابا له، فوجد ضالته في “ظل الريح” لمؤلفه خوليان كاراكس، وبعد قراءته للكتاب، حاول أن يعثر على كتب أخرى للكاتب المجهول، فلم يعثر على شيء، وعرف أن رجلا يدعى لايين كوبيرت يحرق جميع كتب خوليان لاعتقاده بأنها مبعث شرّ، وهو شخصية في رواية خوليان كاراكس.
في مقدمته التي تحمل عنوان” على سبيل التقديم، لرواية لا تحتاج إلى تقديم”، يقول الأستاذ همام: على كل من يملك القدر الكافي من الجنون ليستمر اليوم في كتابة الروايات، أن يكتبها بطريقة تجعل اقتباسها متعذرا، وبعبارة أخرى، عليه أن يكتبها بطريقة تجعلها غير قابلة لأن تُروى. ويرى بأن محاولة مقاربتها، أي هذه الرواية الكرنفالية الفريدة، عن طريق التشبيه، قد تكون فكرة معقولة. فهو يقارنها بلوحات للفنان الهولندي بيتر بروغيل، حيث سيقابل القارئ شخصيات عديدة تبدو كل واحدة منها جديرة بالانفراد بملف روائي كامل..
وتأتي هذه الرواية محتشدة بشخصياتها، كما جاء في مقدمة الرواية، ومتشابكة كدغل أمازوني لا تصل الشمس إلى أرضه. لذلك يحتاج إلى مستكشف حقيقي يحمل معداته، إلى قنديل للإضاءة ومنجل لتفادي الأغصان المتشابكة وقبل ذلك كله، يحتاج إلى جرعة وقائية تحسبا لأي مضاعفات قد تسببها المنعطفات الدرامية لهذه اللوحة الساحرة.. ويذكر بأن زافون أقرّ في إحدى المقابلات بأن مقاطع موسيقية كثيرة كانت تتناهى إلى ذهنه وهو يؤلف”ظل الريح”، فيجلس يدونها أو يقوم بعزفها. ويتساءل همام: هل نحن إزاء قطعة موسيقية تصويرية؟
أما الكاتب والمترجم السوري الذي بُهر بجمال الرواية، فيرى أن الترجمة حالة تلقٍّ وإرسال في آن واحد، لكن خلال ذلك، على المترجم أن يقرأ النص ويكتبه ثانية مرات عديدة.
ما يحيّر القارئ أنه يجد نفسه أمام مؤلفين لرواية تحمل العنوان نفسه، فالمؤلف الحقيقي هو كارلوس زافون، والآخر هو بطل داخل الرواية خوليان كاراكس الحاضر الغائب، وتتداخل الروايتان ضمن دراما مثيرة تتشابك خيوطها.
يقول دانيال في مفتتح الرواية:” لن أنسى أبدا ذلك الصباح الذي اقتادني فيه والدي إلى مقبرة الكتب المنسية”. ويقول والده” هذا المكان سرّ يا دانيال، إنه معبد، حرم خفي، كل كتاب أو مجلد هنا تعيش فيه روح ما، روح من ألّفه، وأرواح من قرؤوه، وأرواح من عاشوا وحلموا بفضله. وفي كل مرة يغيّر الكتاب صاحبه، أو تلمس نظرات جديدة صفحاته، تستحوذ الروح على قوة إضافية. حين جاء بي والدي(جد دانيال) إلى هنا للمرة الأولى منذ سنوات بعيدة، كان هذا المكان قديما مثلما تراه الآن تماما، ربما كان أقدم شيء في المدينة. لا أحد يعلم بدقة كم عمر هذه المكتبة أو من الذي بناها. وكل ما يسعني قوله لك هو أن أكرر على مسامعك ما قاله لي والدي: عندما تغلق إحدى المكتبات أبوابها أو تتلاشى، ويضيع كتاب ما في غياهب النسيان، نحن، الأمناء على هذا المكان، نجد له طريقة كي يصل إلى هنا. كل الكتب التي لا يذكرها أحد أو التي يختفي أثرها بفعل الزمن، تعيش هنا أبدا في انتظار اليوم الذي تعود فيه إلى يدي قارئ جديد وروح جديدة..”.
وحين اختار دانيال كتاب”ظل الريح” لخوليان كاراكس يقول: لم أكن أعرف الكتاب ولا المؤلف، ولم يكن هذا يهمني، كان القرار حاسما من كلا الطرفين. أخذت الكتاب وتصفحته بحذر، إذ كانت صفحاته ترتجف كجناحي فراشة استردت حريتها، أو كسحابة من غبار ذهبي خرجت للتو من السجن. أرضاني الخيار، فعدت على نفس الخطى التي أدخلتني في تلك المتاهة، والكتاب تحت إبطي وابتسامتي ترقص على شفتيّ. ولعلني سكرتُ من جو المكتبة الساحر، لكنني عدت أجزم أن ذلك الكتاب كان ينتظرني منذ أعوام وأغلب الظن من قبل أن أولد… ويضيف: بنية الرواية ذكّرتني بالدمية الروسية التي تحتوي على عدد لا يحصى من الدمى المتشابهة(ميتروشكا)، والسرد متشظّ إلى ألف حكاية، وكأن القصة تدخل في معرض للمرايا فتنقسم إلى عشرات الانعكاسات….
تقول صحيفة الواشنطن بوست” من الصعب أن يعثر القارئ على رواية تحتوي على هذا القدر من العواطف والمآسي والإثارة مثل رواية “ظل الريح”.
أما وزير خارجية ألمانيا الأسبق يوشكا فيشر فيقول: ستقرأ الرواية في جلسة واحدة ولن تنام الليل وأنت تتعقب ظل الريح، لن يسمح لك زافون بأن تترك الكتاب قبل أن تبلغ النهاية.
كتاب ممتع ومثير ومتعب. وفي نهاية هذه الرواية يقول المترجم معاوية عبد المجيد، يتنفس الصعداء كل من القارئ والمترجم على وجه سواء. فلقد كان العمل على نقلها إلى العربية لا يقل صعوبة عن فكّ ألغازها وبذل التركيز المكثف في قراءتها. لكن المكافأة الثمينة تكمن في المتعة التي يمنحنا إياها الكتاب، إضافة إلى معارف متعددة يستحيل حصرها هنا.