«نعي الأحلام».. تعقيبات وهوامش على كتاب رسائلنا ليست مكاتيب!

بقلم : اسماعيل أبو البندورة

لأنني كنت شاهدا ومشاركا إلى حد ما في تلك اللحظة المستقطعة من حياة بيروتية انسانية – سياسية – حزبية – ثقافية جمعتني بالصديقين المبدعين الياس فركوح  ومؤنس الرزاز ، ولأنها كانت لحظة من لحظات تشكل وعيي المختلف ، ولأن المكتوب والمقول في الكتاب الذي صدر حديثا عن دار ازمنة وبقدر ما يستدعي ويستنهض في ذاكرتي لذاذة الرفقة مع هذين الصديقين وبعدها لوعة غياب مؤنس ورحيله المؤسي عن الدنيا وكل المسرّات والمفارقات المرافقة ، إلا أنني آنست فيه كلاما  يستدعي الاضافة والتعقيب والتعليق العام  ( على  الومضات والايماءات السياسية والحزبية تحديدا التي أتفق مع الكاتب في تناول بعض جوانبها وطريقة طرحها وأختلف قليلا مع حدّة ووثوقية وإطلاقية استنتاجاتها )    ، أو استعادة تلك اللحظة بشكل مختلف  والحديث عن الحلم الذي كان ، وحدثت فية قطيعات ، وبقيت منه ايحاءات وممكنات ، لا من أجل نعيه وتفكيكه وتصفية الحساب مع بعض تفاصيله ومحطاته القديمة والحديثة وإحداث قطيعة سياسية معرفية معه واستئصال ما بقي نقيا ومتواصلا فيه  بقدر ما هو من أجل فهم إعضالاته واستدراك فراغاته في تلك اللحظة التي يجري الحديث عنها وفي اللحظات التي تلت وكانت اشكالية السمات وموضوع نقد ومدارسة . إنه ” أي تعليقي ” إذن كلام ثانٍ على كلام أول- اقتضاه وأوجبه ورود اسمي في أكثر من مكان في الكتاب – وهو تعليق يحترم ويعترف بحقوق نص الياس الجديد المبتكر وتعبيراته الأدبية وقدراته الايحائية ، كما أنه ، أي التعليق ، يتناول قضية عامة يتم طرحها وتكرارها في الأدبيات العربية المختلفة  ،وهو ليس قراءة ضديّة على أي حال !

وأقول في البدء أن الكتابة عن زمن ماضٍ ومحاورته بيقينات ولغة واكراهات الحاضر وتراجعاته والتباساته قد يكون تجديدا في الابداع والنظر وخروجا على السائد والتقليدي في إطارات السرد الأدبي  وقد يكون مغامرة سردية – سيريّة مجردة وطافحة بالماضوية لا تستهوي أحدا في مثل هذا الواقع المشظى ، وخصوصا عند سعيها إلى جعل هذا الماضي إشكالياً وخلافياً  وأجردا بلا معنى وبلا مضمون وتاريخانية ومجرد ألهيات وأضغاث أحلام توضع الآن

على مشرحة تحليلية نقضيّة انتقائية طهرانية لكي يستأصل منها كل ما حملته من معان ونفحات واشتعالات ، وكل ذلك لأننا نرى زمننا الذي نكتب فيه الآن الذي يبعد نصف القرن قد استطال بتحولاته وتجلياته وغراباته وأصبح بأعرافنا ويقيناتنا الجديدة مدعاة للتجلي والفيض بالحكمة والوعي المستقيم وأعطانا الشرعية والوثوقية واليقين بإمكانية إصدار الأحكام  والمحاورة والاسترابة والعبث في الرؤية الفعلية والنقية التي حملتها وجسدتها تلك الأحلام وولّدت  العديد من المبادرات والأفعال الايجابية والخائبة أحيانا ً كما جرى ويجري لكل الأحلام عند لحظة تجسدها وانتقالها من المثال إلى الواقع.

وقد لا يسعف في هذا المجال استدخال أية آليات  توهيمية ولا أية تخريجات ومقولات تأويلية  ورؤى موضوعية طهرانية غير مطابقة لموضوعها في الكثير من المواضع ، التي يلوذ بها معظم أصحاب القراءات الاسترجاعية والاعتزال والقطيعة مع الماضي ( الحزبي – السياسي تحديدا ) وخصوصا عند ابتداع وثوقية إطلاقية وشطحات في الفكر ( تختلف عن الفكر  ) تنسب الى تاريخ الأمس وتقرأ في واقع مغاير تماماً ، واعترافات نمطية تكرارية متأخرة ومؤنّسة  تتغيا إبداع براءة نرجسية الى حد ما وغائرة ومكبوتة في الماضي وحاضرة متعالية ومتبرئه من الماضي ومتحررة من الدنس الماضوي ومتمردة عليه ونقيضة لشروره المحض ، حيث يتبدى في هذا المنعطف مكر العقل وهو يمسي في بعض اللحظات أشد مضاضة من مكر التاريخ.

في الحلم وبلد الحلم الافتراضي كانت هناك مشاريع ورؤى مخصبة وإخصابية ومتون فكرية قيد النظر والمدارسة وهوامش كثيرة ( أشاد ببعضها الكاتب بتقشف واحتراز وتقتير ) لم يكن التعلق بها والانتساب اليها يوتوبياً أو إغوائياً وتغريرياً، وكان هناك سعي حثيث في بلد الحلم للتجسد والاشتغال العقلاني وتقديم نموذج بدئي للإقلاع والانبعاث ، كما كان هناك صد وتجابه  وحصارات رمزية وفعلية اجتمعت وتكالبت عليها الأمم  “وصولا الى الغزو الهمجي البربري عام 2003 وما رافقه من رغبة استعمارية في اجتثاث الحلم من أساسة والثأر من ضريح المؤسس بردمه ومحوه واقتلاع عروبة العراق من الجذور” ، وكان هناك تأميم وامتلاك حقيقي للثروة ومحق كامل للأمية وصناعة للعلم والكتب ودعوة للفقراء العرب للالتحاق بالجامعات وجرى استجلاب وإدماج توحيدي للفلاحين العرب بعد تحطيم الحدود والسدود وكانت هناك سيادة وحدود مصونة بجيش قوي فيه حصة راسخة لفلسطين والشام وكل أرض سليبة ، وبيئة معرفية – حضارية تتخلق ، وآمال عريضة وحداثة تتولد ، وديموقراطية غير اتّباعية وغير مسطريّة تستنبت في الرؤوس وعلى ارض الواقع في أطوار صياغته وتشكله البدئي ، وفي الخنادق معظم الاحيان لا في الصناديق الشكلانية المعززة بالأكثروية الكاذبة ، والأعجب أننا أسمينا ذلك في بلاد العرب دكتاتورية واحدية محضة  ومكارثية فائضة  –  لا بد لكل كتابة عربية أن تتوقف عندها ولعنها  دون احتراز في احيان كثيرة ودون إمعان نظر في الما حول – امتثالاً لهوى الأبلسة البرانية التلفيقية المتقصدة ، وتوقفنا حد الجمود والتصنم أمام هذا الأقنوم الواحدي الرجيم للدكتاتورية على الرغم من تكاثر وتفاقم الدكتاتوريات في عصرنا وصمتنا المطبق عنها والعزوف عن نقدها والتقتير في الكتابة عنها مع أنه كان لنا الكثير من فسحات الوقت للنقد والتمعن والتسئال عن كل الوان الدكتاتوريات وعن  الاستبداد وطبائعه ( الناعمة والخشنة ) وخفاياه في كل بلاد العرب  : هل كنا أو أريد لنا أن نكون داخل مصيدة التلاعب بالعقول أو تم اقتيادنا إلى وعي شقي على عربة “ديمواقراطية” خلاصية واهمة وموهومة تؤمّن لنا فردوس ذهني يوتوبي متخيل من الوحدة والخلاصية والاتساق والرفاهية والوفرة والانعتاق وتفتح لنا ابواب القلاع المسدودة؟

كان هناك ( أثناء انبناء الحلم وتصاعده وتعالقنا وتعلقنا به  ) مسكوت عنه ولا مفكر به كثير وكنا من الرفاق الساكتين السالكين ” أو اصحاب المنزلة بين المنزلتين ” أو المرجئة ” وتوزعنا بين المبدأ – العقيدة – الحلم ” وكنا قلّة في محنة ” وبين المؤسسة المتحولة الى سلطة ” وكنا كثرة  في دعة وفرجة ” ، وكنا أو جلّنا أكثر ميلاً وغراماً بهذه المؤسسة – السلطة ومباذلها التي شابها الكثير من الامتثالية والمنوالية والضحالة الثقافية والطقوسية السلطوية وغدا المثقف منا ( بقراره ورغبته ) هو المنتج ليوتوبيا الأحلام والعاشق للمثال وفي زمن ما وجداناً للحاكم الذي سمي لاحقا “بالدكتاتور” ولم يعرف عنا في تلك الفترة اننا خططنا لاقتحام قلاع الخطأ بل كنا من الرعية الغفيرة الغفورة ، وغدت مقاومتنا ” إن وجدت وتبدت ” بالحيلة والتواطؤ السلبي والايجابي ، وبقينا كذلك حتى هرمنا وأصبحنا نتطلع في وقت ضائع الى الوراء بشجاعة مفرطة متخيلة وكأن وعياً مفارقاً قد هبط علينا وعاد الينا أو أنه شبّه لنا بأنه عاد فكان لنا أن نمد أرجلنا وعقولنا في وقت لا يرانا ولا يرد علينا فيه أحد وبعد أن أصبحت الأحلام والأوطان قاعاً صفصفاً وتفرقنا أيدي سبأ ، وضعنا في اصناف جديدة من الكلامولوجيا الغرائبية والزبد الذي نراه “فعلا وحقيقة” يذهب جفاءً ولا يمكث في الأرض .

ويجدر بي القول الآن – على ضفاف هذا التعقيب وإردافاً لسياقاته وحول ما ورد في بعض صفحات الكتاب – أن الكتابة عن العائلة الرزازية ( الدكتور منيف المفكر القومي ومؤنس الأديب القومي ) ذات الأبعاد المتعددة والوجاهة الفكرية الطافحة والتراث الفكري والنضالي المديد كانت إشكالية ( ومفخخة أحياناً ) أو أريد لها أن تكون  إشكالية قصداً “بالتلبيس المعرفي في الكثير من الاحيان ” ولم تكن في الكثير من الحالات مطابقة لحياة ومسيرة هذه العائلة ولم تستوفي الشروط المعرفية الموضوعية للكتابة عنها وأصبحت مقاربتها  مشوبة بثنائية القدحية أو الافتخارية ، كما أنها وظفت في الكثير من الأحيان لأفكار وأغراض من خارج إطاراتها وسياقاتها ، وكنت دائما أرى في هذا اعتداءً على حرماتها الفكرية والشخصية وحتى على أطيافها المحببة المتواصلة في خيالنا ووجداننا ، إضافة إلى الفشل الذريع الذي منيت به الكثير من هذه الكتابات في قراءة الفكر القومي النقدي العميق الذي تمتعت به النصوص التأسيسية التي أنشأها الدكتور منيف والإبداع الأدبي المميز لمؤنس على الرغم من وجود شذرات من المقاربات التي نأت بدورها عن المطلوب باستحضارها الدائم والمقصود للفاجع السياسي وانبنائها واقتصارها عليه وقولبت ( القولبة جعلت الدكتور منيف يمينياً وشيوعياً ومتآمراً مع أن المنهجية المفترضة كما احسب كانت تتطلب أن تقرأ سيرة الدكتور منيف أقلّه على غرار قراءة دويتشر لتروتسكي النبي المسلح – الأعزل – المنبوذ لكي تنتج وعياً مطابقاً عنه وعن مؤلفاته وتتوضح الأمور حوله أكثر ) وقوّلت الدكتور منيف سابقا ومؤنس لاحقا ما لم يريدا قوله, وتلك قضية تستحق البحث والتأمل المختلف لأن الأكثر استشكالا  دائماً في هذا الموضع هو الذهاب الانتقائي المتعمد إلى القراءات الآثمة والإلتباسية المتعجلة وتحويل مركز النص الرزازي لدى الأب والإبن  من المتن إلى الهامش وحذف الكلام الرزازي الأول ومعانيه وافصاحاته ليحل محله الكلام التأويلي الثاني ومعانيه ومقاصده ومآلاته المغايرة ، وتلك كما أحسب من أغلوطات ومفاسد المنهجيات التي يمكن أن تصعّد اللامعنى وتفسد الجوهر والمناط والمقتضى.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى