في الحدث البريطاني
بقلم : عبداللطيف مهنا
نعم، إنه حدث تاريخي بكل ما تعنيه الكلمة. هو كذلك وبصرف النظر عن الزاوية التي يتم منها رؤية تاريخيته، وسلباً أم ايجاباً. كما ويصدق أيضاً وصفه بالزلزال، لأن دويه وارتداداته وتداعياتهما ستلازم إلى حين غير منظور القارة العجوز المرتبكة، والجزر البريطانية المتخبطة، هذه التي شأنها الأبدي أنها لم تسحب يوما قدمها من القارة، ولكنها دوماً تحتفظ بالأخرى خارجها، حتى في عز اتحادها معها. ولن يقتصر الأمر عليهما، ستتجاوز غيوم هذا الحدث الفضاء الأوروبي الملبَّد لتنداح فلا تستثني، بنسبة أو أخرى، بقعة ما في عالم تشد وثاقه العولمة لتُلحقة شاء أم أبى بالمركزية الغربية الهرمة المتراجعة، تلكم الطافحة عادة بشرورها والضنينة ديدناً بخيِّرها.
عشية الاستفتاء، الذي نظَّمته رعونة ديفيد كاميرون بدوافع لا تخلو من حسابات انتخابية، اكتشف البريطانيون أنهم قد انقسموا نصفين وباتوا قاب قوسين أو ادنى من التجزئة التي فرضوها يوماً على الوطن العربي. نصفهم مع زيادة طفيفة مع الخروج من الاتحاد الأوروبي والنصف الآخر الذي يقل عنه قليلاً مع البقاء فيه. بيد أن الأخطر في هذا الانقسام أنه عُمْري، المسنّْون مع الخروج والشباب مع البقاء، وليس هذا فحسب، بل أن الفريق الأول ريفي في اغلبه، والثاني نخبوي ومدني، أي أنه مجتمعي بامتياز، لكنما الأخطر منه ما كان على الصعد القومية، فاسكوتلندا ذات الهوى الانفصالي تعارض مغادرة الاتحاد وقد يجد انفصاليوها فرصتهم السانحة لمغادرة المملكة التي لم تعد متحدة، وهذا حال شمال ايرلندا أيضاً، أما انجلترا وويلز فكانتا مع مغادرته. هذا يعني أن بريطانيا قد تضمر لتصبح مجرَّد انجلترا، وكما يقولون، وقع الفاس على الرأس، وبوادر الندم التي بدت تغزو بلاد الضباب، والتي تتزايد بتزايد وتسارع الارتدادات الاقتصادية والمالية قد جاءت متأخرة ولا من ضامن لجبر ما انكسر، أو يصعب تخيُّله ولو تكاثر ملايين الموقعين على عرائض المطالبة بإعادة الاستفتاء.
عشية الاستفتاء وبعيد ظهور نتيجته بدت أوروبا فزعة ومُربكة ويتنازعها ثكل لايكتم غيظاً، وكلاهما يتوازيان مع حالة سيولة تصب في مجرى محاولات امتصاص ترددات الزلزال البريطاني والحفاظ على تماسك الاتحاد، ويردفهما توجُّه حازم يجزم بضرورة سرعة تجاوز الحدث بالدفع باتجاه سرعة إتمام طقوس الطلاق، مع نية لم تعد خفية بوجوب معاقبة المُطلَّقة كتحذير مسبق يردع من توسل له نفسه الاحتذاء بها.
قيل وسيقال ما هو اكثر منه حول مسببات الحدث وحسابات الربح والخسارة لكل من صانعيه البريطانيين ومتلقي ارتداداته ومحاصريها الأوروبيين، ولأن المسألة مركَّبة ولا ينقصها التعقيد، فإن جملة مما قيل حتى الآن، ومن زواياه المختلفة، كثيره لا تجافيه الحقيقة رغم سيولة الحدث وتناقضات الرؤى، والمهم أن قاسمها المشترك هو كونها حصيلةً لعولمة طاغية ونيوليبرالية متوحِّشة جعلتا من هذا الاتحاد…هذا الذي ما كان اصلاً إلا لأن أوروبا التي تعبت من حروبها المستدامة والمتوَّجة بحربين كونيتين مدمرتين لم تبقيا ولم تذرا، والهاربة من جرائر كونها البيئةً المُفرِّخة لاعتى فلسفات الكراهية والتعصُّب، كالفاشية والنازية والصهيونية، يضاف اليه سائر مواريثها الحاضة على تواريخها الدموية، قد لجأت إلى اتحادها بديلاً محموداً يصونه تبادل المنافع ويحميه خوفها من عودتها لتاريخها الأسود…جعلتا من هذا الاتحاد، اشبه مايكون باتحاد للشركات والمصارف العملاقة النهمة، بمعنى أن الأوروبي العادي وجد نفسه قد هرب من بلاء الشوفينية إلى آسار الجشع، وزاد الطين بلةً تراجع الاقتصاد الأوروبي عموماً، والفرض التعسفي لسياسات التقشُّف، ورفع سن التقاعد، وصعود اليمين، ومعه التنامي التلقائي للعنصرية الكامنة والتي بذرتها لا تفارق منابتها، لاسيما وقد وجدت في تدفُّق اللاجئين، وهيستيريا الخوف من الأخر، ما يغذي مثل هذا التنامي…يلاحظ مثلاً أن عواجيز بريطانيا، أي الذين نشأوا في ظل امبراطورية بادت واورثتهم حنيناً إلى ماض استعماري غابر، هم أكثر من صوَّتوا لصالح الخروج من الاتحاد.
ستجد اوروبا حلولاً مؤقتة لمواصلة اتحادها غير المطمئنة لمستقبله. وقد يسهل عليها ذلك بدون بريطانيا، وحيث تقوى فيه القبضة الألمانية، لكنما الحدث بذاته هو لصالح روسيا، التي تزحف الأطلسة نحوها وتحاول الالتفاف على اسيجتها، ونقطة في غير صالح الهيمنة الأميركية على القارة وحتى على العالم، ولا يعدم خسارةً ما للكيان الصهيوني، لجهة ما قد يتسبب من ركود اقتصادي، إذ المعروف أن 44% من تجارته هي مع الاتحاد الأوروبي، وصادراته لبريطانيا العام الماضي قد بلغت الأربعة مليارات، والأهم هو أن خروجها من الاتحاد تعني خسارته لمصطنعته وحاضنته الأولى ثم داعمته والمنحازة دوما اليه، والتي شكَّلت داخل هذا الاتحاد مصداً دائماً لأي مبادرة لا يرضى عنها هذا الكيان…حاول كميرون اقناع يهود بلاده بالتصويت للبقاء في الاتحاد باعتبار ذلك مصلحةً لإسرائيلهم.
…كعرب، عهدنا بالمملكة المتحدة حرصها على أن لا تكتفي بما فعلته بنا في الحقبة الاستعمارية المباشرة، ومنه تقسيم الوطن العربي، الذي يعيش تداعيات فعلتها إلى يومنا هذا، ولا بكونها صاحبة وعد بلفور، و، و، وصولاً إلى العدوان الثلاثي، بل المشاركة في كافة الحروب اللاحقة على الأمة، في العراق، وليبيا، وسورية، وعليه، يحق لنا اليوم أن لا نجد غضاضةً في القول، إنها إن ضمرت وغدت قريبا إنجلترا لا بريطانيا، ففي ذلك ما قد يعني الأفضل للعالم وربما الأقل ايذاءً لنا…