لماذا لا تنهض المؤسسات العلمية والمراكز البحثية بجهد وطني لمجابهة ظاهرة التطرف والارهاب ؟؟

طاش سهم الارهابيين وخاب فألهم ورُدّ كيدهم الى نحورهم حين ظنوا ان مكان وخصوصية جريمتهم التي اقترفوها في منطقة البقعة/عين الباشا في اليوم الاول من شهررمضان، سوف يقيم الناس ويشتتهم ويثير بينهم دوافع ثأرية وانتقامية تنعكس سلباً على أمن وسلامة الاردن ومكوناته الديموغرافية وتعاضدها وتكاتفها ووحدتها في مواجهة قوى البغي والشرّ.
في جريمتي البقعة واربد، جاء رد الفعل الشعبي وطنياً واعياً مدركاً لخطورة الهدف الذي سعى الارهابيون لتحقيقه، حاديه الى ذلك ادراك الناس ان المواجهة مع الفكر المتطرف طويلة وتحتاج الى وعي وحكمة، وتعالٍ على الجراح، ونبذ الجهوية والعصبوية والاقليمية والطائفية وغيرها، باعتبار ان عديمي العقول السوية من اصحاب الضمائر الميتة الذين يقبعون بين ظهرانينا في العتمة والجحور، لا مانع او رادع عندهم من القاء الحجارة في البئر الذي يشربون منه، او نقض حجر من بنيان البيت الذي يؤويهم ويداري سوآتهم، ويكيلون الضربات لمؤسساته ومواطنيه رضوخاً لما يمليه عليهم فكرهم الظلامي الارهابي، بعد ان تم غسل عقولهم، فما عادوا يبالون بشيء بعد ان تعطلت عندهم حاسة الادراك فتحولوا الى وحوش ديدنهم سفك الدماء وازهاق الارواح البريئة، حتى وان كانت من ارحامهم وذويهم.
لقد بينت حادثة البقعة/عين الباشا وباقي الحوادث الارهابية التي وقعت في البلاد منذ تفجيرات الفنادق عام 2005، وما تلا ذلك من وأد لكثير من المخططات الشيطانية والخوارجية، ان الحرب على الارهاب والتطرف ليست حرباً امنية او عسكرية فقط، بل هي سلسلة معارك سياسية واقتصادية وفكرية، غير ان النجاح الامني في مكافحة الارهاب لم يقابله من جانب المستوى الحكومي اي نجاح او مسعى جاد لمكافحة التطرف الفكري والسياسي الطاعن في التخلف والخروج على كل الادبيات الدينية والدنيوية اخلاقياً وانسانياً وتعبدياً.
هذا التراخي في مواكبة النجاح الامني/العسكري ارجع المراقبون سببه الى حالة الاسترخاء والاطمئنان التي تشيع بين الناس، والقصور الواضح في عزم الحكومة واجهزتها المدنية المعنية والاحزاب والنقابات وغيرها من المؤسسات التي تتعاطى الشأن العام، في فهم حالة التطرف المشار اليها، بدعوى ان ما يجري عبارة عن حالات محدودة، لم تصل بعد الى حد كونها ظاهرة واسعة تستدعي التوقف عندها، نظراً لمحدودية اعداد المتطرفين والارهابيين، وسهولة قمعهم في اي وقت.
هذا التراخي والاسترخاء في آن واحد تنقضه الدراسات التي اشارت الى ان داعمي الفكر المتطرف في البلاد هم اكثر مما يتوقع البعض، وهم ينتمون لكل الخلفيات الاجتماعية والجغرافية، وليس الى امكنة بعينها، او مكون سكاني ذي لون واحد، كما ان فئات عديدة من ابناء الطبقة المتوسطة هم بمثابة حواضن فكرية وايديولوجية للفكر المتطرف، وهؤلاء ينتشرون بلا شك في المؤسسات المنتجة للمعرفة والوعي كالجامعات والمدارس والمساجد ووسائل الاعلام وادوات الاعلام المجتمعي التي اصبحت بفضل شبكة الانترنت في متناول يد كل من هب ودب، ما يعني ان هذا التيار المتطرف اصبح بمقدوره اختراق مجموعات شبابية غير محصنة فكرياً ونفسياً واستمالتها بشتى الوسائل والادوات ليجعل منها فتائل وقنابل تشتعل وتنفجر كيفما واينما كان اذا سنحت لها الفرصة في غفلة من ضميرها ووعيدها الانساني والوطني.
ويقول المراقبون انه على الرغم من قوة وفعالية الاجراءات الامنية والعسكرية في مواجهة هؤلاء المتطرفين، فان ما يثير القلق هو قدرة هذا الفكر الاسود على الوصول الى ابناء الطبقة الوسطى والطلبة والمتعلمين اكثر من ذي قبل، وهو وصول يضاعف انصاره ومريديه ويجد لهم مواضع اقدام في مناطق جديدة في المدن الكبيرة وما حولها، اي ان نقطة الضعف الحقيقية تكمن في العملية الوقائية القائمة على الجوانب الثقافية والاعلامية والسياسية، مبينين انه على الرغم من كل المؤتمرات والندوات التي عُقدت والاستراتيجيات التي وضعت، فان الجهد المبذول ما يزال سطحياً واحتفالياً، وليس جهداً حقيقياً عنوانه اكتشاف الاسباب والعوامل التي تسهل عملية اختراق الشباب والتأثير فيهم وعليهم، اذ ليس صحيحاً القول ان حطب هذا الفكر الخارج عن المألوف هم من المتعطلين والفقراء ومن في حكمهم.
وفيما دعا بعض المراقبين الى وضع عملية البقعة في سياقها الواقعي وحدودها الطبيعية دون مبالغة او تهويل، خاصة وان الحالة الامنية الاردنية اجتازت اختبارات عديدة، دون ان يسجل عليها اي اخفاق يذكر.. قال بالمقابل مراقبون آخرون ان ما حدث مؤخراً يعني وصول المواجهة مع التنظيمات الارهابية الى نقطة المواجهة المفتوحة، وحثوا على ضرورة اعادة قراءة الواقع الداخلي بطريقة علمية وعملية تستند الى قراءة معمقة للبعد الاقليمي الارهابي، حيث ان هذه التنظيمات الشريرة تستهدف الاردن باعتباره بوابة المواجهة المستمرة معها، وبالتالي لا يمكن اسقاط فرضية تزايد التحديات الامنية وتنوعها شكلاً ومضموناً، ومن ضمن ذلك استيقاظ قطعان الخلايا النائمة، وانتشار سعار الذئاب المنفردة التي تتفلت لتعيث في من حولها ارهاباً متى وجدت الطريق ممهدة لذلك.
المراقبون يتوقعون وصول التنظيمات الارهابية لنقطة المواجهة في الداخل الاردني نظراً للتنامي المضطرد لهذه التنظيمات التي تتوفر لها حواضن داخلية عديدة، لم يتم التعامل معها خارج الجهد الامني الاّ وفق اسلوب غض البصر، او ضمن منطق توظيف ادوات متطرفة في جوهرها لمواجهة التطرف المتنامي، بعيداً عن اي اساليب علمية او عملية.
وقد استشهد المراقبون عند الاشارة الى هذه النقطة بتقرير الامن القومي الامريكي للعام 2015 الذي صدر حول مكافحة الارهاب والتطرف، حيث اشار بوضوح الى فشل سياسة مكافحة التنظيمات الارهابية والمتطرفة بعيداً عن الخيار الامني.
وهنا تتقاطع مخرجات التقرير الامريكي مع وجهة نظر المراقبين الذين يقولون ان استراتيجية مكافحة التطرف التي وضعتها الحكومة السابقة ظلت في الادراج لم يقرأ احد عنها شيئاً، ولم تظهر لها اية نتائج او بوادر، وكذلك الامر بالنسبة لهكذا حوارات ومناقشات تجري هنا وهناك دون الاشارة اليها او الاعلان عنها، مع ان العنوان العريض الذي يضعه هؤلاء المراقبون وتلك الاستراتيجية وغيرها من الحوارات هو ان الدولة التي نجحت امنياً في مواجهة الارهاب فشلت سياسياً وثقافياً في حماية شبابنا من الفكر المتطرف وتبعاته.
في هذا السياق نلاحظ ان تصريحات المسؤولين الحكوميين في الوزارات والمؤسسات والفروع المعنية بتوجيه الشباب وبنائهم بناء قويماً سليماً قد استخدمت لغة فضفاضة ومكررة وهي تتحدث عن ضرورة توعية الشباب وتحصينهم وما الى ذلك من لغة خشبية لا تقدم ولا تؤخر.. وبناء على هذه الملاحظة تساءل المراقبون وكأنهم يوجهون السؤال الى اولئك المسؤولين ومن في حكمهم قائلين : ”لماذا يقتنع الشباب بطروحات المتطرفين ولا يقتنعون بما تقولون وبما يقوله الاعلام لهم ؟ ولماذا تؤثر فيهم دعاية داعش الدموية وتجذبهم افكاره العدمية والمتطرفة ؟ بينما افكاركم المستنيرة حول الاسلام الوسطي المعتدل لا قيمة لها عندهم”، مشددين على القول : ربما ان شريحة واسعة لم ولن تتدعشن، لكنها لا تثق – للاسف- بالخطاب الديني الرسمي، ولا حتى بخطاب التيارات المعتدلة.
وفي مقاربة للاجابة المباشرة عن هذا السؤال، دعا المتسائلون كافة المعنيين في القطاع الشبابي الى اعادة النظر في البرامج والجهود التي يوجهونها للشباب، مشددين على ضرورة اشراك المعنيين من الخبراء في علم النفس وعلم الاجتماع والفكر الاسلامي بصورة اكثر عمقاً، والعمل على تحليل الظاهرة وتفكيك اسبابها تفكيكاً موضوعياً، وصولاً الى بناء قاعدة بيانات وتحليل للشخصيات والاسباب والدوافع.
وقالوا ان الخطر الحقيقي لهذه الجماعات الارهابية المتطرفة يكمن في الداخل حيث تشير التقديرات الى وجود نحو ثلاثة آلاف اردني يقاتلون الى جانب داعش وجبهة النصرة في سورية والعراق، وان عدد انصارهم ومريديهم يتضاعف في الساحة الاردنية، ما يعني ان المشكلة الحقيقية يجب ان تولى الاهتمام النوعي الكبير القائم على اجراء مراجعة علمية موضوعية في مجتمعنا وبين شبابنا ومؤسساتنا لنتمكن من الفهم العميق لهذه الظاهرة الخطيرة بابعادها المختلفة، ولا بد للحكومة ان تنفتح على المؤسسات العلمية والمراكز البحثية لقيادة جهد وطني لمجابهة هذه الظاهرة الخطيرة ولجمها، وبالتالي فان المطلوب من الحكومة الحالية ان تتغلب على عجزها في التصدي للابعاد السياسية والايديولوجية للموضوع، وذلك من خلال توظيف دور المدارس والجامعات والمناهج والاندية والمراكز الثقافية والاحزاب، واشاعة العدالة الاجتماعية ومواجهة البطالة.
خلاصة القول.. ان الفكر المتطرف له تنظيماته وادواته واسبابه سواء أكانت داخلية ام خارجية، وهي اسباب وادوات معقدة ومتداخلة، ولكنها ليست عصية على الفهم، ولا بد من الاعتراف ان هناك العديد من الفئات التي تشعر بالتهميش سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وفي المقدمة منها الشباب الذي يبحث عن حلول لاغترابه داخل وطنه او تهميشه، ما يدفع البعض الى الانطواء والانعزال، فيما يدلف البعض الآخر الى عالم المخدرات، ويختار طرف ثالث التطرف والسير بعكس الاتجاه، ومن لا يقترب من اي من هؤلاء يصبح رهيناً لهاجس الانتحار والتهديد به – بمناسبة وبدون مناسبة – بقصد لفت النظر الى معاناته وضيق حاله واحواله.
ما تقدم يعني انه لا بد من الاعتراف بأن التطرف ليس حالة معزولة، بل هي موجودة وكامنة بدرجات متفاوتة لدى العديد من الفئات، وقد بات من الضروري التعامل مع اي حادث ارهابي بواقعية بعيداً عن كونه يأتي معزولاً عن السياق وفردياً، فذلك كلام لا ينطبق على ما هو حاصل على ارض الواقع بل يجافي الحقيقة الوجودية بشكل لا لبس فيه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى