بقعة ضوء

بقلم :  إنصاف قلعجي

لا تحتاج الدراما الإبداعية إلى تدفق هائل من الأموال، وإلى شركات إنتاج كبيرة لتمول عملا فنيا، وإلى ممولين يسعون لإنجاح هذا العمل الإبداعي. وكما نشاهد على شاشات التلفاز، هناك دول تصرف أموالا طائلة لإنتاج دراما أقل ما يقال فيها إنها مملة، أو أن الأفكار مكررة مما يدفع المشاهد إلى تغيير القناة. لكنني شخصيا، وأنا أتابع الدراما السورية، أجد أن السوريين قد أبدعوا بشكل كبير في هذه الظروف الصعبة التي يعيشها السوريون وخاصة الفنانين منهم. ففي برنامج يومي بعنوان “بقعة ضوء” تأتي الحلقات من الواقع المعيشي للشعب السوري، بكل آلامه وتطلعاته نحو المستقبل. لقد غطّ الكتّاب أقلامهم في حبر المعاناة والفقر، ومعاناة المرأة السورية وغيرها من الأمور، رغم قلة الموارد لإنتاج أعمال كبيرة كهذه.

وكما يقال: الفالحة بتغزل ولو على ذنب كلب.

ومن الحلقات التي شدّت انتباهي في “بقعة ضوء”، حلقة “المسامح كريم” وهي تقليد لبرنامج الإعلامي الفذّ جورج قرداحي حيث يقوم جورج باستضافة شخصين متخاصمين، كأب وابنه، أو أم وابنتها، أو زوج وزوجته..إلخ. ويقوم بإصلاح البين بينهما. لكن الفنان المبدع باسم ياخور الذي مثل دور قرداحي، بلهجته اللبنانية الجميلة، وبعد أن أصلح الصديقتين، وخرجتا من الأستوديو متصالحتين، يسمع صراخهما في الخارج، وتنهال عليه الأحذية والحقائب، فالقلوب ما تزال ملآنة رغم الصلح، وهذا ما يحدث، والسؤال: هل يخرج المتخاصمان بعد أن تصالحا، بقلوب صافية بعد قطيعة طويلة بينهما؟ لقد قلب ياخور الطاولة في حلقته وبيّن أن القلوب الملآنة تبقى هكذا، وما التمثيل أمام الجمهور إلا حلقة من سلسلة حلقات  للقول بأن المسامح كريم.

في “حاجز طيار”، تعبت النساء من الطبخ والنفخ وأعمال البيت ورعاية الأطفال، فاجتمعت بعض النسوة وقررن إنتاج أشرطة وفيديوهات وهمية تقول إن الرجال في سن معينة( في عمر أزواجهن) سيقبض عليهم عند الحواجز للالتحاق بالجيش. فما كان من الرجال إلا أن التزموا بيوتهم، وخرجت النساء للعمل، وتركن مسؤولية البيت بالأولاد والطبخ والتنظيف لأزواجهن الذين عانوا ما عانوا، خوفا من الحواجز الوهمية التي اخترعتها زوجاتهم هربا من مسؤولية البيت.

وكما يلاحظ، فقد انعكس الواقع الاجتماعي والسياسي على حياة الشعب السوري، فكانت مادة الدراما إبداعا حقيقيا للفنانين المبدعين السوريين.

كذلك حلقة عن المقابر وارتفاع أسعار القبور نظرا لكثرة الأموات، وأصبح المواطن يشتري قبره سلفا.

وحلقات عن معاناة المهاجرين السوريون الذين يحملون الوطن في وجدانهم أينما حلوا. وخاصة الحياة بكل جمالياتها في بلدهم في المدن والأرياف.

الفن الكبير يغرف من الحياة، ويضع الأصبع على الجرح. والفنان السوري العظيم يحمل جرحه على كفه ويمضي هازئا بكل ما صنعه الإرهاب في بلده.

يقول جورج أورويل في كتابه” لماذا أكتب”: أكثر ما رغبت به هو أن أجعل من الكتابة السياسية فنا. عندما أجلس لكتابة كتاب لا أقول لنفسي:” سوف أنتج عملا فنيا” ، أكتبه لأن هناك كذبة أريد فضحها، حقيقة أريد إلقاء الضوء عليها، وهمّي الأوّلي هو الحصول على مستمعين. لكن ليس بإمكاني القيام بمهمة كتابة كتاب، أو حتى مقالة طويلة لمجلة، لو لم تكن أيضا تجربة جمالية. لست قادرا، ولا أرغب، أن أتخلى كليا عن منظور العالم الذي اكتسبته في طفولتي، طالما بقيت حيا وبصحة جيدة سوف أستمر بشغفي تجاه أسلوب النثر وبحب سطح الأرض، وبأن أجد البهجة في أغراض صلبة وقصاصات معلومات غير نافعة. ليس من المثمر كبح هذا الجانب من ذاتي”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى