نتنياهو و”تحديث” التنازلات العربية !
بقلم : عبد اللطيف مهنا
الحديث التسووي في سياق المحاولات التصفوية للقضية الفلسطينية المستمرة لم يتوقف يوما. لكنما، وقد كان قد قضى فترة من خفوت نسبي خبت خلالها جلبته، ها هو هسيسه يعلو وينتعش مؤخراً. بات تجاذب اطرافه لدى اطرافه مستحباً، وكل يشده من موقعه ووفق رؤيته، ليصبح اعلامياً ذا شجون. أما مادته فهى هى لم تتبدل وإن اختلفت لغاتها، إذ أن جوهرها لا يشي باختلاف يعتري جديدها يخالف فيه قديمها. خلاصة الأمر أن كل المراد الآن هو أن تغادر الأوهام التسووية المحتضرة مكان اقامتها حيث تراوح منذ امد في غرفة العناية المركًّزة، وأن تخطو، ولو مترنحةً، بما قد يوهم بتصور ما لانبعاثها، انتظاراً لما سيتلوه عادةً من تخيل لتحليقها عالياً في المتخيل الأوسلوي وعضيده العربي وحدهما، ذلك ولو إلى حين.
لكنما هذا المستحب التليد لهذين، الأوسلوي وعضيده، جعلهما حائرين بين بارقين خلَّبيين، واحدهما، التماع سراب المبادرة الفرنسية التحريكية الزائل، والتي يصر باعثوه الفرنسيون على استمرارية حديث افكها حتى ولو تقزَّم مؤتمرها المأمول إلى ملتقى عمومي يوصف بالتشاوري، أو نوع من التظاهرة الدولية الراطنة بالفرنسية، لكن بلكنة أميركية، كالتي تيسر حشدها البارحة في باريس. وثانيهما، غموض دعوة “السلام الدافىء” المصرية ولغز توقيتها. هذه التي يقال أن مهندسها وصاحب امتيازها الأصل، وفق الروايات الغربية والصهيونية، هو توني بلير، والتي كان رد نتنياهو العملي لا التصريحاتي عليها، أو بالأحرى، ووفق ذات الروايات ايضاَ، تملُّصه منها، حيث تجمع هذه على أنه لم يك ببعيد عن عملية حياكتها، هو استقدام ليبرمان، ما غيره، لإئتلافه الحكومي وتسليمه مفاتيح وزارة الحرب!
قيل وسيقال الكثير مما تعضده التسريبات الصهيونية من أن الدعوة الدافئة ما جائت إلا لتقطع الطريق على المبادرة الآفلة، أو لتدرأ شبح التدويل المزعوم، أو الممنوع من الصرف اميركياً، لكنما، وحيث من ديدن التسوويين، فلسطينيين وعرباً، أن يظل ينطبق عليهم المثل الشعبي البدوي القائل إن مثلهم هو مثل الذي “سكب قربته على طريق السحاب”، بمعنى انتظاراً لغيثه. هم دلقوا قربتهم في هذه المرة مرتين، الأولى حين رحب الأوسلويون بمؤتمر المبادرة الفرنسية الآفلة حتى قبل أن تصلهم بنودها، ولاحقاً بملتقاها غير المدعوين له، والثانية حين سارع وزراء الخارجية العرب إلى اعلان تأييدهم لهذه المبادرة ظالمةً أو مظلومةً، بل إن أبا مازن قد افتى بما لم يخطر ببال الفرنسيين حين خلع على مبادرتهم البائرة مرجعيةً من لدنِّه تمثَّلت في المدعوَّة “المبادرة العربية للسلام”، وقرارات الأمم المتحدة!
خطورة فتوى ابي مازن أنها تعيدنا إلى دعوة “السلام الدافىء”، وتستوجب توقُّفاً جدياً أمام تسريبات صهيونية سبقت ومَّهدت حول استعداد عرب التسوية لتعديل مبادرتهم المرفوضة، والتي وئدها الصهاينة لحظة أن ولدت، رغم أنها تنازلت لهم عن 78% من فلسطين، وقبلت بالتطبيع الكامل الشامل معهم، وزادت فتخلت مداورةً عن جوهر القضية الفلسطينية، أوحق العودة، بطرحه للتوافق. التسريبات تقول أن هذا التعديل سيتجاوز ذكرهذا الحق كلياً ومعه الجولان السوري المحتل…لاحقاً لم تعد هذه مجرَّد تسريبات حين يدلى نتنياهو بدلوه قائلاً: إن “مبادرة السلام العربية تتضمن مكوِّنات حيوية يمكنها أن ترمم مفاوضلت بناءة. نحن على استعداد لاجراء مفاوضات مع الدول العربية لتحديث المبادرة”. وفي تناغم مقصود ومدروس ومتفق عليه بين المؤتلفين اللدودين رأى ليبرمان بدوره وعلى غير عادة أن ” في المبادرة العربية عناصر إيجابية تسمح بالحوار”…ليصدح من بعدهما المتصهين البلغاري وخليفة بلير في “الرباعية الدولية” مالدنوف بما تتبدى له من “فسحة لفرصة تاريخية ينبغي أن لا تضع”!
…كل ما تمخَّض عنه جبل المبادرة الفرنسية هو زوبعة ملتقاها، كما كان صدى دعوة “السلام الدافىء” المصرية هو تسليم نتياهو لليبرمان مفاتيح وزارة الحرب…من سلَّم مفتاحها يريد “تحديث التنازلات العربية، أي زيادتها، ومن استلمه لا يرى في فسحة ملادنوف التحديثية سوى ما قد يسمح بالحوار مع مُفْسحيها. أما مسألة لوك حكاية قبول الإثنين بما يدعى ب”حل الدولتين” فقديمة جديدة ومن كليهما، ويكفي في وصفها ما كان من شاهدين من اهلهما، هما صحيفتي “معاريف” و”هاآرتس”، تقول الأولى إنها “ليست حقاً بضاعة يمكن لمسها”، وإذ لم تر الثانية في هذه البضاعة جديداً، اعتبرتها “ليست أكثر من تلاعب لفظي”، مؤكدةً أن نتنياهو “يرفض أن يعطي ويصر على أن يأخذ”…يأخذ من من؟!
ممن لم تعد قضية قضايا أمتهم مركزية عندهم، وإذ نفضوا منذ أمد أيديهم منها، لم يعودوا يقاربونها إلا باعتبارها عبئاً عليهم، والآن في واقعهم المنحدر جل ما يتمنونه هو التخلص من هذا العبء. هذا عربياً، أما أوسلوياً، فما هو المنتظر ممن لا يريد العودة لمدينته صفد، ويصرِّح مبدياً استعداد سلطته لاستقبال الاف اللاجئين والنازحين العرب…وأين؟! في كانتونات رام الله المحتلة، والتي هى قيد التهويد وبرسم الترانسفير…وهل مثل هذا ممكن؟! يجيب بنفسه: لا، لأن الاحتلال “يرفض السماح بذلك”؟!
…المعادلات الدولية يؤازرها كل من الانحدار العربي وبؤس الحالة الفصائلية الفلسطينية هي ولا أنسب منها لمن يأخذ ولا يعطي، ويطالب بالمزيد من تحديث للتنازلات العربية.. أما القضية فلا صائن لها سوى عدالتها ودم شعبها المقاوم ومحتوم قيامة امتها… أو هذا الذي فيه وحدة سر استحالة تصفيتها.