ليست ازمة اقتصادية.. بل ازمة مسؤولية وطنية

 

 

كثيرون حول السلطة.. قليلون حول الوطن

المهاتما غاندي

خليق بنا، عند مناقشة الاوضاع الراهنة في بلادنا، ان نخط النهاية قبل المقدمة، ونقدم الخبر على المبتدأ، ونضع النقطة اول السطر وليس آخره.. نظراً لان حياتنا العامة تجري بالمقلوب، وتمضي في الاتجاه المعاكس، وتنحدر من سيئ الى اسوأ، وتبحث عن النجاح في خرائط الفشل.

لسنا في حاجة الى عيني زرقاء اليمامة، او محطات الانذار المبكر، او استشرافات علماء المستقبل، لندرك ان بلادنا تغوص في خضم محنة صعبة ومركبة ومثلثة الابعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشديدة التداخل والتفاعل، والمفتوحة على افدح المخاطر والعقابيل، والعصية على ”التطنيش” والتسكين وحبوب المهدئات.

انها محنة وطنية بالدرجة الاساس.. محنة وطن نجح في تجاوز كارثة ”الربيع العربي”، وفي قهر عصابات التكفير والارهاب، وفي صون وحدته الوطنية وسلمه الاهلي.. غير انه اخفق في استثمار هذا الانجاز الهائل لجهة ضخ دماء جديدة في شرايين الدولة، وتطوير رؤية النخبة الحاكمة لنفسها ولشعبها، وادامة حالة التوافق بينها وبين الرأي العام، ودفع المسيرة الديموقراطية قدماً بوصفها صمام الامان، واجتراح حلول نوعية وابداعية ومن خارج الصندوق للمعضلة الاقتصادية والمالية التي تأخذ بخناق البلاد والعباد منذ جملة عقود.

منذ انفجار ازمة المديونية عام 1989 حتى ايامنا الراهنة التي تشهد ارتفاعاً فلكياً في ارقام المديونية الحالية، ونحن ندق الماء في الاناء، ونداوي بالتي كانت هي الداء، ونهرع للاستنجاد بصندوق النقد الدولي، ونضاعف الاعتماد على جيب المواطن الغلبان، ونعبّ المزيد من ماء المديونية المالح الذي يزيدنا بؤساً وعطشاً، ونجوب العالم شرقاً وغرباً بحثاً عما يتيسر من المنح والمعونات والاكراميات المحرجة.. ولا شيء آخر.

لقد ثبت بالوجه القطعي والواقعي ان جهابذة الاقتصاد والمال لدى مؤسسات الدولة ليسوا اكثر من مجموعة فنية ومهنية وبيروقراطية تقليدية تجيد التلاعب بالارقام، وادارة الازمات بالتقسيط، وتوفير الحلول الجزئية والآنية والترقيعية، وتجيير المعضلات المستعصية لمن يخلفها ويأتي بعدها.. ذلك لانها تفتقر الى الفكر الاقتصادي الخلاق، والروح الريادية والابتكارية الجريئة، والخيال التنموي المحلق في الآفاق الواسعة، والمؤهل لاختراق الخطط الروتينية، وتجاوز السقوف الواطئة، ومناددة مفكرين اقتصاديين مبدعين في دول عالمثالثية لا تختلف عنا كثيراً، مثل ماليزيا وسنغافورة والهند والبرازيل وجنوب افريقيا.

بعد كل هذه السنين العجاف، وبعد كل هذه التجارب الاقتصادية الفاشلة والاخفاقات المتكررة، يتعين على صناع القرار الاقتصادي ومفكريه ومنظريه، اعادة تعريف ازمتنا الاقتصادية المزمنة، بل اعادة التعرف المخلص والامين على حقيقتها وجوهرها.. ذلك لانها ليست ازمة فنية واقتصادية بحتة تتعلق بشح الموارد والاموال، بقدر ما هي، اولاً واساساً، ازمة ارادة عامة ومسؤولية وطنية ورؤية استراتيجية تتصل بضعف الوازع الوطني، وشدة التدليس السياسي، وضخامة الانفاق الفوقي، وغياب روح التضحية والتبرع والايثار، وانعدام ثقافة العمل والعرق والانتاج والاعتماد على النفس.

نحن اليوم في امس الحاجة الى المراجعة العاجلة واعادة النظر فيما نحن عليه، توطئة للخروج من  ربقة الزاوية الحرجة، او محشر السلم الحلزوني، الى رحاب الهواء الطلق والآفاق الرحبة، بل الى المشروع التنموي والنهضوي الشامل والمتكامل والقمين باذكاء الحماس الوطني، والارادة الجماعية، والمشاركة الشعبية، والمبادرة الى التبرع والتطوع والعطاء والتكافل الاجتماعي والتقارب الطبقي.

نحن اليوم في امس الحاجة الى ما يشبه ”الثورة البيضاء”.. ثورة بانورامية في المفاهيم والمعايير والمقاييس والمسالك والعادات والالتزامات.. فلكي نغير لا بد ان نتغير، ولكي نتجاوز واقعنا المرير لا بد ان نتجاوز رواسبنا وسلبياتنا، ولكي نجدد حياتنا ونعانق عصرنا لا بد ان نشحذ هممنا ونوسع مداركنا، ذلك لان الله جل وعلا لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم.

لماذا لا نجرب ترشيد الانفاق والاستهلاك لدى الحاكمين قبل المحكومين، وترسيخ ثقافة الزهد والتقشف والبعد عن مشهديات الفخفخة والبهرجة والبذخ، التي لا تليق بدولة كادحة ومعوزة ومثقلة بعشرات المليارات من الديون ؟؟ والى متى سيظل الحديث عن اسراف الطبقة الحاكمة وتبذيرها وترفها، يدور سراً في المجالس المغلقة، والصالونات السياسية، وحلقات الدس والنميمة والكراهية، دون ان يجد فرصة الظهور العلني في صيغة مصارحة ودية، او مكاشفة حضارية من شأنها وضع النقاط على الحروف، وربط الراتب بالواجب، والامتياز بالانجاز، وحجم النفقات بطبيعة الاعباء والمهمات ؟؟

لماذا لا يتنادى رجال المال والاعمال من بني اردننا للنهوض بالواجب الوطني في البذل والعطاء ونفع البلاد والعباد، اسوة بامثالهم من الاغنياء الاجانب الذين اعتادوا، متطوعين لا مكرهين، على التبرع بمبالغ هائلة من حر اموالهم لحساب الاعمال الخيرية والانسانية، ولصالح المراكز والهيئات الطبية والبحثية والثقافية والاكاديمية ؟؟ لماذا لا يبادرون لاقامة المشاريع التنموية والاستثمارية ”الرحيمة” الهادفة، اولاً وابتداءً، لخدمة المصلحة العامة وليس الخاصة.. وامتصاص البطالة ورفع مستوى الانتاجية، وليس ممارسة الاستغلال ومراكمة الارباح.. وتوسيع قاعدة الثروة وتوزيعها بين الناس، وليس تكديسها لدى قلة قليلة من الاباطرة والمتنفذين ؟؟

كم يعجبني ويملأ خاطري فخراً وفرحاً، هذا الطبيب المصري (القبطي) البارع، الدكتور مجدي يعقوب الذي لم تأخذه جنسيته الانجليزية من وطنيته المصرية، ولم يمنعه تفوقه الباهر في جراحة القلب لدى اكبر مستشفيات لندن، من مد يد العون الى وطنه الام، وتشييد صروح طبية خيرية لمنعفة فقراء مصر في اقاصي الصعيد.

لماذا لا تطلق وزارة العمل ونقابات العمال، وحتى النقابات المهنية، حملة اعلامية وتعبوية شعواء تستهدف اعادة الاعتبار الى فضيلة العمل والجد والجهد، وتجديد الانتماء الى الحقل والمعمل والمرعى والمصنع والمحجر والورشة، بعد ان هجرناها واغتربنا عنها، وتركنا امرها للعمالة العربية الوافدة، وارتضينا البطالة السافرة او المقنّعة، واستمرأنا حياة الكسل والخمول والاهمال، واستوردنا اقبح عادات عربان النفط وسفاهاتهم دون ان نمتلك مثل مالهم ونفطهم ؟؟ ألم نكن قبل عقدين من الزمان نخدم انفسنا بانفسنا، ونحرث حقولنا ونحصد محاصيلنا ونشيد مبانينا بايدينا وليس ايادي غيرنا ؟؟

لماذا لا تقوم وزارة التنمية الاجتماعية، وعشرات الهيئات والجمعيات النسائية ببذل اقصى الجهود، وتنظيم اوسع الندوات واللقاءات والحوارات، لهدم ”ثقافة العيب” التي باتت تحول دون اشتغال المرأة الاردنية في منازل الآخرين، مع ان هذه العادة كانت شائعة ومتبعة وعادية جداً، قبل ان تغزونا ادبيات التحريم والتكفير والتنقيب والتحجب وسوى ذلك من قاموس التزمت الوهابي ؟؟ لماذا لا تقوم هذه الوزارة، واخواتها في العمل الاهلي، بافتتاح مراكز تدريب وتأهيل وتشغيل وتشجيع للنساء الاردنيات، لمزاولة العمل كمدبرات منازل، ومربيات اطفال، وراعيات مرضى ومسنين، وفق شروط وقواعد كريمة وعادلة، وتحت اشراف الوزارة ورعايتها ؟؟ ألا يعني ذلك تشغيل الالاف من نون النسوة، وتوفير ملايين الدنانير المستنزفة لحساب عشرات الالوف من بنات بنغلادش وسيريلانكا واثيوبيا والفلبين ؟؟

لماذا لا تنسج وزارة الخارجية والمغتربين، وسواها من الجهات الرسمية المعنية، شبكة تواصل وتفاعل واسعة ونابضة بالجدية والحيوية مع سائر المغتربين الاردنيين في عموم اركان المعمورة، لتوطيد علاقاتهم بوطنهم الاول، وتجديد ولائهم ووفائهم له، وحثهم بدوافع وطنية ومصلحية معاً لوضع خارطة الاردن صوب اعينهم، ومضاعفة الاستثمار والادخار والتملك والسياحة في ربوعه ؟؟

المغتربون كنز حقيقي للاردن، ولكنهم يحتاجون الى خطة ذكية وفريق عمل مركزي نشيط، لاعادة ربطهم ببلادهم، وتمتين عرى شبكة التواصل والتراسل معهم.. وليس من شك ان رعايتهم والاهتمام بهم انجع وانفع واشرف الف مرة من بيع الجنسية الاردنية للغرباء، لقاء ”تكرمهم” بالاستثمار في بلادنا.

وعليه.. فالمهم ان يفكر اسيادنا الاقتصاديون من خارج الصندوق، وان ينهض المسؤولون واصحاب الصلاحيات في ديارنا بواجبهم الوظيفي والاخلاقي، وان يصدقوا ما عاهدوا عليه الشعب والوطن، وان يقتنعوا – فعلاً لا قولاً- ان المنصب او الوظيفة العامة تكليف لا تشريف، وعندئذ سوف يكتشفون باندهاش كبير ان المستحيل قد سقط في قبضة الممكن، وان الحلم قد تحول الى حقيقة واقعية ملموسة.. واليكم شاهد قريب ودليل واضح على صدق ما نقول.

قبل بضعة اشهر فقط، قرر الاردن بشقيه الرسمي والشعبي دفن ظاهرة الطخ واطلاق الرصاص في الاعراس وسواها من حفلات الافراح، ولم يمض اكثر من اسبوع او اسبوعين حتى اختفت هذه الظاهرة الخطرة، واصبحت اثراً بعد عين، رغم انها كانت لجملة اعوام وعقود عادة معمرة ومتجذرة وعابرة للاجيال، حتى ان كتاب التكليف السامي الذي بعثه المرحوم الملك حسين الى الاستاذ مضر بدران، اطال الله عمره، عشية تشكيل حكومته عام  1980قد تضمن الطلب من الحكومة العتيدة مكافحة هذه العاهة بكل عزم وقوة.

وبعد.. نبارك للوطن بعيد الاستقلال السبعين، ولكنه سيبقى استقلالاً مثلوماً في غياب الاكتفاء الذاتي، والامتلاء الاقتصادي، والاستغناء عن الدّين والدعم الخارجي !!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى