الغنوشي يسدل الستار على حقبة الاسلام السياسي

بشجاعة ووضوح، اسدل راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسية الستار على حقبة ”الاسلام السياسي”، حين اعلن الاسبوع الماضي الفصل التام بين الدين والسياسة، والبراءة الناجزة من جماعة الاخوان المسلمين، لقناعته بانها اصبحت خارج التاريخ.
هذا الموقف المفاجئ والجريء للغنوشي لقي تفهم وترحيب طيف واسع من الدول والقوى والهيئات الشعبية والحكومية في معظم ارجاء الوطن العربي والعالم الاسلامي.. غير انه اثار موجة عارمة من الاستياء الاخواني الصامت، فالجماعة الآن اشبه ما تكون ببالع السكين الذي لا يقوى على ابتلاعه او انتزاعه.
وسواء اتخذ الغنوشي هذا الموقف الحاسم والمنعطف الواسع من تلقاء تجربته التاريخية الواسعة في العمل الاسلامي، وقراءته الرشيدة للمعادلات والتحولات والمستجدات العربية والعالمية الداهمة.. او اتخذه بوحي من ”اصدقائه” الكثر في الدوائر الامريكية والاوروبية وحتى الصهيونية – كما يزعم خصومه- فالنتيجة واحدة، والمؤدى واحد يتمثل في ضرب مشروع الاسلام السياسي من داخله، واطفاء ظاهرة الاخوان المسلمين بعد فشلها الذريع في مزاولة الحكم، وكبح جماح التطرف.
المهم ان الغنوشي قد بق البحصة، وركب الصعب، وجهر بالقول ان الاسلام دين سماوي لا دين سياسي، وهو دار للمسلمين جميعاً وليس حكراً على فرقة دون اخرى، وليس من حق احد تصنيفه على قاعدة التطرف والاعتدال، او توظيفه لاغراض سياسية ومآرب ومكاسب دنيوية.. الامر الذي يحتم اعادةالنظر في شرعية الاحزاب والجماعات والكيانات السياسية التي تستند الى اسس ومرجعيات دينية.
وانسجاماً مع توجهات الغنوشي فقد أقرت ”حركة النهضة” خلال مؤتمرها العاشر الاسبوع الماضي، الفصل بين نشاطاتها الدينية والسياسية، بهدف التأقلم مع التطورات الجارية في تونس التي لا تزال بمنأى عن النزاعات الدامية التي ضربت بقية دول الربيع العربي.
وقد أصبح هذا التحول رسمياً، بعد اعتماده من المؤتمر العاشر للحركة، المنعقد في منتجع الحمامات السياحي جنوب العاصمة التونسية.
وقال راشد الغنوشي، الذي اعيد انتخابه مجدداً على رأس الحركة، ”اننا نتّجه بشكل جدي للتحول الى حزب سياسي وطني مدني، ذي مرجعية إسلامية، ويعمل في إطار دستور البلاد، ويستوحي مبادئه من قيم الإسلام والحداثة”.
وأضاف الغنوشي يقول : ”ان دستور البلاد نصّ على استقلالية منظمات المجتمع المدني عن الأحزاب. ونحن إذن نستجيب لتطوّر داخلي في البلاد”.
وقال : انّ ما نؤكد عليه هو ضرورة التمييز بين النشاط السياسي والنشاط الديني. فالمسجد ليس مكانا للنشاط السياسي. المسجد هو مكان يتجمع فيه العموم، وليس من المعقول استعماله بهدف استغلاله في أنشطة لحزب واحد. نريد أن يكون الدين أداة توحد التونسيين وليس سبب تفرقهم. لذلك لا نريد أن يكون إمام مسجد ما قائدا سياسيا، بل لا نريد أن يكون حتى عضوا في أي حزب كان. نريد حزبا يتناول المشكلات اليومية ويناقش حياة الأسر والأشخاص، لا حزبا نتحدث فيه إلى هؤلاء الأشخاص والأسر والعائلات عن يوم الآخرة وعن الجنة. ونريد أن تكون الأنشطة الدينية في معزل عن الأنشطة السياسية؛ لأن ذلك سيكون في مصلحة السياسة حيث سنتفادى اتهامها باستغلال الدين لأغراض سياسية، كما سيكون ذلك في مصلحة الدين الذي لن يبقى رهين السياسة، أو محتكرا من طرفها.
ومن جانبه قال رفيق عبد السلام، وزير الخارجية السابق، وصهر الغنوشي، لوكالة فرانس برس : ”لم يعد هناك حاجة للإسلام السياسي الاحتجاجي في مواجهة الدولة، نحن الآن في مرحلة البناء والتأسيس، نحن حزب وطني يعتمد المرجعية الإسلامية، ويتجه إلى تقديم إجابات أساسية على مشاغل واهتمامات التونسيين في الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية”.
وكان المؤتمر العاشر لحركة النهضة قد افتتح اعماله يوم الجمعة قبل الماضي في ضواحي مدينة تونس بحضور آلاف الأشخاص، وبينهم الرئيس التونسي قائد السبسي، الذي قال في كلمة القاها في المؤتمر : ”نأمل أن تتوصلوا خلال أعمالكم إلى التأكيد أن ”النهضة” باتت حزباً مدنياً تونسياً شكلاً ومضموناً”.
وقد تناقش المشاركون الـ 1200 في المؤتمر لساعات طويلة حول الأولويات الواجب اعتمادها في إطار استراتيجية الحركة الجديدة للعمل في سائر المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فيما قال اسامة صغير، المتحدث باسم المؤتمر لـ ”وكالة فرانس برس” إنه تم التصويت بنسبة %80 على الفصل بين الدعوي والسياسي.
ويتلاءم هذا التغيير في مسار ”حركة النهضة” مع اقتناعات غالبية الشعب التونسي، إذ أفاد استطلاع أخير للرأي أن %73 منهم يؤيدون ”الفصل بين الدين والسياسة”. وأجرت مؤسسة سيغما التونسية هذا الاستطلاع بالتعاون مع المرصد العربي للديانات والحريات ومؤسسة كونراد اديناور.
هذا وقد أعرب الدكتور ابراهيم منير، نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، عن تفهمه لعدم دعوة حركة ”النهضة” لهم لحضور مؤتمرها العاشر، وقال : ”نحن نتفهم تماما عدم دعوتنا لحضور هذا المؤتمر، الذي عُقد في ظل ظروف محلية وإقليمية ودولية بالغة الصعوبة، علاوة على أنه جاء بعد لقاء بين الرئيسين التونسي الباجي قايد السبسي، والمصري عبد الفتاح السيسي، وكان السبسي ضيفا رئيسيا لمؤتمر النهضة، ومن غير المقبول ديبلوماسيا أن نكون حاضرين بينما الإخوان هم الهوس الأول للسيسي، وهم الموضوع الرئيسي للقائه مع السبسي”.
وأضاف منير يقول: ”نحن لسنا ضد توجه النهضة للفصل بين ما هو دعوي وسياسي، فتونس ظرفها صعب للغاية، ليس فقط بسبب الاوضاع الاقتصادية والامنية والضغوط الإقليمية والدولية، وإنما أيضا بسبب شراسة العلمانيين المتأثرين بالثقافة الفرنسية، ومن الحكمة مراعاة ذلك”.. ولكنه تابع ساخراً : ”الإسلام السياسي تعبير جديد على المنطقة، وأنا شخصيا لا أعتقد بوجود إسلام سياسي وآخر اقتصادي وثالث اجتماعي، هذه مقولة لا بد من وضع علامة استفهام عليها”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى