هيكل .. جامعة العطاء التي لن تموت
بقلم : عبد الهادي الراجح
المكان : مكتب الأستاذ والفقيد الكبير محمد حسنين هيكل.
الزمان : الثاني من شباط عام 1974م.
المتحدث هو رجل الأعمال الأمريكي من أصل استرالي كيت روبرت مردوخ، واحد من أهم أقطاب ألتجاره والإعلام الدولي والمدير العام والمؤسس ورئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للشركة القابضة للإعلام الدولي ( limited News) ومالك اكبر الصحف في القارة الاسترالية.
الأستاذ هيكل جامل محدثه بكلمات عادية، و لكن المفاجأة التي حملتها عناوين الصحف المصرية ذلك اليوم تمثلت في خبر نقل الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل من عرينه بالأهرام الذي جعل منها الصحيفة الأكثر قراءة في الوطن العربي ورقم (10) عالميا ، الى وظيفة مستشار للأمن القومي، وفق أحد قرارات السادات المتسرعة، ولكن الأستاذ الكبير رفض الوظيفة أو المنصب المرموق سواء كمستشار أمن قومي أو نائب رئيس وزراء أو رئيس وزراء، مكتفيا بالمهنة التي نذر نفسه لها وكان يسعده لقب الجورنالجي أي الصحفي.
وكان إمبراطور الصحافة والإعلام مردوخ قد طلب من الأستاذ الكبير بقبول رئاسة تحرير صحيفة ( ذي تايمز) البريطانية وتحديد الراتب الذي يريده، ولكن هذا الاستاذ الكبير اعتذر بأدب جم، وقال ان هناك كتاب يكرهون العرب لصالح الكيان الصهيوني، وأنه يطيق البعد عن مصر أيضا، وحزم أمره بالتفرغ لكتبه ومقالاته التي أصبحت تطالب بحق نشرها كبريات الصحف في العالم، ولا سيما تلك التي عقبت حرب أكتوبر وصدرت على شكل مقالات جمعت في كتب مثل (الطريق الى رمضان، وعلى مفترق الطرق ما بعد حرب أكتوبر، وآفاق الثمانينات، وصولا للمفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل 3 أجزاء، وحرب الثلاثون سنة 4 أجزاء ) حيث تسابقت صحف الصاندي تايمز والتايمز البريطانيتين ويومي يوري اليابانية وغيرهم لنشر تلك الكتب والمقالات التي تعتبر من أهم الكتب والمراجع لسلسة الأحداث في الشرق الأوسط ، وتعبر عن القيمة السياسية وبأسلوب أدبي وفكري مبسط ومفهوم لدى العموم.
ولعل البروفسور والمؤرخ المرموق في جامعة أكسفورد ( ستيفن رانسيمان ) لم يذهب بعيدا عن الحقيقية عندما قال في وصفه لفقيد الامة الكبير محمد حسنين هيكل ( بأن التاريخ لدى الأستاذ هيكل له آذان وعيون وذاكرة) ما يعني ان هيكل كان متميزاً.
لقد كان تصادمه مع المرتد أنور السادات بعد حرب أكتوبر انطلاقا من مصلحة مصر وأمتها العربية حيث رأى الفقيد الكبير أن فلسطين والشرق الأوسط تحديدا هما العمق الحقيقي لمصر وسوريا الكبرى بشكل خاص، وهما بوابة الأمن القومي لمصر والمنطقة ، لذلك رفض كامب ديفيد وملاحقاتها في أوسلو ووادي عربه ، فقد كان رأيه أن السلام مع أعداء السلام مستحيلا لأن هناك صاحب حق هو العربي الفلسطيني الذي يقدم حقائق التاريخ وواقع الجغرافيا والقانون الدولي ليثبت حقه في وطنه وأرضه، وهناك في المقابل من يبني قناعته على الخرافات بالوعد الإلهي المزعوم الذي فضل الصهاينة وأعطاهم ارض غيرهم في فلسطين المحتلة حتى ولو كان ذلك على حساب أصحابها الأصليين والحق والعدل وحاش الله عما يقولون ، وانه يعتمد على الدعم الخارجي البريطاني والفرنسي والأمريكي بعد ذلك .
لقد استمد الأستاذ ثقته من ثوابت أمته العربية، فهو من صاغ أفكار الزعيم جمال عبد الناصر على الورق من خلال كتاب (فلسفة الثورة)، لذلك كان التوافق الكيمائي بين عبقريتين هما الزعيم جمال عبد الناصر وهيكل.
وعندما رحل القائد المعلم لجوار الله، وارتد من ارتد وتراجع الكثيرون، كان هيكل واحداً ممن وقفوا ودافعوا عن التجربة من داخلها، حيث واجه الأعاصير التي هبت بعد الردة الساداتية، واحداً من القلائل الذين وقفوا ودافعوا عن تلك التجربة وهو أول من انتقد تجاوزاتها كأي تجربة إنسانية وقد عزا ذلك للمؤامرات الخارجية والرجعية العربية ، ولسنا بحاجة لنؤكد ذلك وواقعنا اليوم شاهد على ما قاله وحذر منه الأستاذ الكبير بالأمس القريب .
لقد كان محمد حسنين هيكل جامعة وثائقية عظيمة القيمة والمعنى حافظ على تراثنا وثوابتنا وقاوم بقلمه الرشيق وفكره المستنير كل مخططات الاستعمار وأعوانه في المنطقة وساهم في رفع وعي الأمة وحفظ ذاكرتها.
أن أعظم سنوات عطاء الأستاذ الكبير كانت في العقود الأربعة الأخيرة خاصة بعد نجاح المشروع الاستعماري في العراق وتفتيته فكانت أحاديثه وكتاباته في مجلة وجهات نظر والتي صدرت بعد ذلك في مجموعة كتب شهيرة تحت عنوان ( الغارة الأمريكية على العراق ، والعربي التائه، وكلام في السياسة ، وسقوط نظام وغيرها) قد شكلت اضافة للمكتبة العربية ناهيك عن أحاديثه الصحفية ولقاءاته التلفزيونية خاصة مع قناة الجزيرة والسي بي سي والمحور والحياة وغيرهم.
لقد سجن الأستاذ الكبير ولم يزده السجن إلا إصرار على المبدأ ومنع من الكتابة ولم يزده ذلك إلا قوة وثباتا وإصرارا، ورغم ان نظام كامب ديفيد قد مارس الضغوط على المحطات التلفزة التي طلبت استضافته، فقد أصبح الفقيد الكبير هو المقصد لكل مهتم بشؤون المنطقة والعالم، ذلك انه اقترب من عمالقة القرن العشرين وثواره بدءا من صديق عمره الزعيم جمال عبد الناصر، وصولاً لجواهر نهرو في الهند وكاسترو وجيفارا في كوبا وأحمد سوكارنو في اندونيسيا ولوممبا في الكونغو وأحمد بن بيلا في الجزائر وشارل ديغول في فرنسا والإمام الخميني في إيران وحافظ الأسد في سوريا ومعمر ألقذافي في ليبيا ونيكيتا خورتشوف في الاتحاد السوفيتي.
برحيل هيكل خسر العالم قامة إعلامية لا تعوض، وخسر وطننا العربي أهم دعاة حريته ووحدته وكرامته وخسرت صاحبة الجلالة أهم من مسك القلم وأعظم من صاغ الكلمات وأنبل من أعطى للمهنة مكانتها وهيبتها.
لقد كان الأستاذ الكبير وسيبقى جامعة من الإبداع الصحفي، وقد فقدت لغة الضاد برحيله أعظم من صاغ العبارات بشكل أدبي أعطى للغة جمالها ،وفقدت العروبة ضميرها المتكلم والأكثر يقظة في عصر نامت به الضمائر.
يموت الرجال و تبقى الأعمال خالدة مع مر الزمن