رحيل هيكل.. اخر عمالقة الصحافة العربية
رحل استاذ الاجيال, وصاحب الجملة الصحفية الانيقة, والفكرة السياسية العميقة, و”القوة الناعمة” التي تهز الرجال والجبال.
من اعالي عمر ناهز الثالثة والتسعين عاماً, قفز “هيكل” امس الاربعاء الى رحاب السماء, والتحق بصديقه ورئيسه وشريكه بالحلم والحكم, جمال عبد الناصر.. وها قد التقيا مرة اخرى في دار الخلود, بعد لقائمها الاول في معترك الحياة.
وكانت حالة هيكل الصحية قد ساءت منذ ثلاثة أسابيع، حين بدأ بالخضوع لعلاج مكثف في محاولة لإنقاذ حياته، بعد تعرضه لأزمة شديدة.
وقد أصدر الرئيس عبدالفتاح السيسي بيانا نعاه فيه قائلا : “مصر فقدت اليوم علما صحافيا قديرا أثرى الصحافة المصرية والعربية بكتاباته وتحليلاته السياسية التي تناولت فترات ممتدة من تاريخ مصر والأمة العربية”.
كما نعاه رئيس الوزراء المصري شريف إسماعيل وقال في بيان “الفقيد الراحل ساهم بقدر كبير في إثراء الحياة الفكرية بما قدمه من الكتب والمقالات والدراسات السياسية والتاريخية”.
اما الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، فقد اعلن في برقية عزاء بعثها إلى الرئيس السيسي بوفاة هيكل ـ أنه برحيل هذا الفقيد تكون مصر والأمة العربية فقدتا “قامة إعلامية كبيرة”.
وجاء في برقية العزاء: “ببالغ الحزن والأسى تلقيت نبأ رحيل الأستاذ محمد حسنين هيكل الكاتب والإعلامي المصري والعربي الكبير إلى جوار ربه.. وإثر هذا الرزء الفادح لا يسعني إلا أن أسلم بقضاء الله وقدره وأتقدم إلى فخامتكم ومن خلالكم إلى كل أعضاء أسرة الفقيد الكرام وإلى الشعب المصري الشقيق باسم الجزائر شعبا وحكومة وأصالة عن نفسي بأصدق التعازي وأخلص مشاعر التعاطف.. داعيا الله العلي القدير أن يشمل المغفور له بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته”.
وأكد الرئيس بوتفليقة: “إنه من نافلة القول أن مصر والأمة العربية فقدتا في المغفور له قامة إعلامية باسقة وواحدا من أكبر رجالات الفكر والإعلام نذر حياته لخدمة وطنه والأمة العربية بفكره وقلمه مستشرفا المستقبل بنظرة متبصرة ثاقبة”.
وأضاف:”لا ريب أن رحيله خسارة لكل الأمة العربية لما قدمه في الدفاع عن قضاياها العادلة حيث كان ذلكم الحكيم الحصيف والشاهد الأمين على عصره والعقل المفكر المتبصر الذي استشرف الأحداث والمتغيرات بتحليل دقيق واستنتاجات صائبة، والكاتب الخصب المعطاء الذي خلف من المؤلفات ما تزدهي به المكتبات العربية والعالمية وتستنير به الأجيال”.
وتابع قائلا:” وإذ استحضر خصاله الحميدة وأخلاقه النبيلة وحنكته السياسية أقول جازما إن المرحوم الأستاذ محمد حسنين هيكل كان له باع في المنافحة عن القضايا العادلة في العالم. ولذا سنحتفظ في ذاكرتنا لفقيد مصر والعرب بمكانة خاصة تقديرا وعرفانا لمساره الحافل بالعطاء في خدمة الفكر السياسي والإعلام في الوطن العربي”.
وأكد بوتفليقة أن الجزائر – إذ تعزي في هذا الرجل العظيم رفيق درب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ـ تستذكر نصرته المشرفة للقضايا العادلة في أفريقيا والعالم ومساندته المطلقة ومكافحته المريرة عن الثورة الجزائرية المجيدة وعن حقوق شعب المليون والنصف مليون شهيد”.
ووصفه عمرو موسى الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية في تصريح لقناة سي.بي.سي اكسترا التلفزيونية المصرية بأنه “قامة من القامات الرفيعة في مصر”.
ومن جهته نعى عبد الحكيم عبد الناصر, نجل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الاستاذ هيكل، وقال ، خلال مداخلة هاتفية مع فضائية “CBC EXTRA”: “هذا يوم حزين بالنسبة لي، فالأستاذ حمل الأمانة التي منحه إياها عبد الناصر لتوثيق مرحلة تاريخية من التاريخ المصري”.
وأضاف يقول: “هيكل حمل سلاح الكلمة والحقيقة بالوثائق بكل أمانة وإخلاص لمواجهة من حاولوا طمس حقيقة التاريخ، ونحن نعتبر أسرة الكاتب الصحفي بمثابة أهل لنا”.
ومحمد حسنين هيكل من مواليد 1923، بإحدى قرى محافظة القليوبية (شمالي القاهرة)، وعمل بمجال الصحافة منذ عام 1942، بالتحاقه بقسم الحوادث في صحيفة “إجيبشيان جازيت” باللغة الإنكليزية، بعد تعرفه على سكوت واطسون الصحافي المعروف بالصحيفة، ونجح واطسون في إلحاق هيكل بالجريدة في فبراير 1942، كصحافي تحت التمرين بقسم المحليات وكانت مهمته العمل في قسم الحوادث.
كان العمل في صحيفة إجيبشيان جازيت مهما بالنسبة إلى هيكل، إذ كان وقتها في التاسعة عشرة من عمره، وما لبث أن اشتعلت الحرب العالمية الثانية، فسطع نجم الصحيفة بتغطيتها أخبار الحرب، وعمل هيكل على ترجمة أبرز ما تتناقله وسائل الإعلام الأجنبية من أخبار وتحليلات ومقالات.
كتابات هيكل شملت أسرار الحروب ودهاليز الاتفاقيات وتاريخ الشخصيات، التي عايشها والتي لم يعايشها
تنقل هيكل بين العديد من الصحف، وعمل بجريدة أخبار اليوم، والتي شهدت انفرادات هيكل، من تغطيته لحرب فلسطين إلى انقلابات سوريا، ومن ثورة محمد مصدق في إيران إلى صراع الويسكي والحبرة في تركيا، ومن اغتيال الملك عبدالله في القدس إلى اغتيال رياض الصلح في عمان واغتيال حسني الزعيم في دمشق.
ورأس تحرير عدد من الصحف والمجلات المصرية من أبرزها “آخر ساعة” و”الأهرام” التي استمر في رئاسة تحريرها 17 عاما من 1957 إلى 1974.
تم تعيين هيكل وزيرا للإعلام عام 1970، كما أضيفت له وزارة الخارجية لفترة أسبوعين في غياب وزيرها الأصلي آنذاك محمود رياض.
تمثلت النقلة الأكبر في حياة محمد حسنين هيكل في ثورة الثالث والعشرين من يوليو عام 1952، وقد كان التقاء هيكل بثورة يوليو ورموزها من الضباط الأحرار الحدث الأبرز في مسيرة هيكل المهنية، فقد اقترب هيكل من الزمرة السياسية الصاعدة كمنبر إعلامي مواكب لتحركاتهم، وكمستشار وصاحب رأي على مستوى الرؤى الإعلامية والسياسية، وفي مراحل لاحقة تصاعد دوره إلى حدّ توجيه صانعي القرار وفق رؤيته الإعلامية.
وساهمت الصداقة الحميمة لهيكل مع جمال عبدالناصر في منحه مكانه كأكبر صحافي وعلاقات واسعة بدوائر صنع القرار في مصر والعالم العربي وازدادت العلاقة قربا بينه وبين عبدالناصر ليصبح هيكل بعد فترة المتحدث الرسمي باسم حركة الضباط الأحرار، وليكون أحد صناع تاريخ مصر بعد ثورة يوليو.
عاش محمد حسنين هيكل عهد جمال عبدالنَّاصر صوتا وقلما إعلاميا، برئاسة أبرز وأقدم الصّحُف “الأهرام”، أصدر عدة كُتب شاعت في أسواق الوراقة على أنها كُتبت بحبر شاهد العصر، شملت هذه الكتب أسرار الحروب ودهاليز الاتفاقيات والمعاهدات إلى تاريخ الشخصيات، التي عايشها والتي لم يُعايشها. فراحت معلوماته مبثوثة في المئات من المؤلفات كمصادر للصحافيين والباحثين.
ومع تصاعد نجم الصحافي وقربه من الرؤساء، أثار ضغينة أصدقاء القصر الذين حذروا كثيرا من كون هيكل يمثل خطرا على الرئيس وعليهم في آن معا، نظرا لآرائه التي اعتبروها “خاطئة”.
هيكل أثبت أن الصحافة ليست تابعة للسياسة فقط، وأنها يمكن أن تكون صانعة لها ومشاركة فيها
ولجأ رؤساء مصريون سابقون لمشورات هيكل في المسائل المصيرية، ما جعل السياسة المصرية متشابهة في الكثير من المسائل خلال عقود مختلفة، أرجعها المراقبون إلى مشورة “هيكل”، الذي تغير عليه أكثر من رئيس فيما بقي مستشارالقصر في مكانه.
يعتبر هيكل الصحافي الأشهر في مصر طوال نصف قرن، وأثار الكثير من الجدل، بمواقفه وتحليلاته التي اختلف فيها الكثيرون، لكنهم اتفقوا على مكانة الرجل الذي تربع على عرش الكتابة، وكان نجما تلاحقه الفضائيات، وكان هو السياسي المحنك الذي يعرف اتجاهات الأحداث والقضايا ويفك تشابكات الحاضر ويربطها بخيوط المستقبل.
وبعد ظهوره لفترة ليست بالقصيرة على شاشة الجزيرة، وغيرها، كشاهد عصر، أخذ النّاس يُقلبون الوقائع، وعلى وجه الخصوص بعد تشابك التواريخ، واعتماده على شهادة الأموات، وانحسار دوره في الحوادث.
حاول هيكل اعتزال الكتابة والعمل الصحافي في سبتمبر عام 2003، بعد أن أتم عامه الثمانين، وكان وقتها يكتب بانتظام في مجلة “وجهات نظر” ويشرف على تحريرها، فيما قدم برنامجا أسبوعيا تلفزيونيا بعنوان مع هيكل بالإضافة إلى العديد من الحوارات التلفزيونية، إلا أن هذا “استئذان في الانصراف” لم يبدو صائبا بالنسبة إلى حس الصحافي الذي أمضى جل حياته في المهنة، فعاد إلى متابعة مشواره.
أثبت هيكل أن الصحافة ليست تابعة للسياسة فقط، وأنها يمكن أن تكون صانعة لها ومشاركة فيها، ويمكن الولوج إلى عرش السياسة والطرح السياسي والإدارة وصناعة الخطط والاستراتيجيات عبر بوابة الصحافة. ولقب بـ”الأستاذ”.
قدم هيكل للمكتبة العربية العشرات من الكتب والمراجع السياسية أبرزها خريف الغضب وعودة آية الله والطريق إلى رمضان وأوهام القوة والنصر وأبوالهول والقوميسير، بالإضافة إلى 28 كتابا باللغة العربية من أهمها مجموعة حرب الثلاثين سنة والمفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل.