ايزنكوت وما يعجز عن تعريفه!

بقلم : عبداللطيف مهنا

“هذه الموجة غير متوقَّعة، وغير قابلة للاحتواء أو التعريف”. بهذه العبارة وصَّف الجنرال غادي ايزنكوت، رئيس اركان جيش الاحتلال الصهيوني، الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الراهنة، عاكساً بذلك، ليس رأيه أو رأي جيشه فحسب، وانما خلاصة ما توصَّلت إليه تقييمات كافة اذرع المؤسسة الأمنية في الكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين المحتلة…إنه ذاته ما لا تتجاهله، وإن هى تحاول أن تتفادى التصريح به في حومة مزايداتها الداخلية، أغلب المستويات السياسية الحاكمة أو المعارضة في هذا الكيان.

في تعريفه لها بالموجة، اعتراف ضمني بكونها ليست سوى محطة من محطات مواجهة نضالية فلسطينية متواترة للاحتلال، أي أنها إن هى لاحقة لما سبقنها فلسوف يكون لها لاحقاتها اللائي لن يتوقف تتاليهن ما بقى هذا الاحتلال، أو هذا الكيان الغاصب قائماً.

أما أنها قد كانت بالنسبة لهم غير متوقَّعة، فما هو بالأمر غير المعروف. لقد عكس هذا أيما انعكاس تفاجؤهم وارتباكهم المشهودان بدايةً، وذعرهم البائن الذي تأتى عنه جنونهم القمعي، أو ردة فعلهم الوحشية المستمرة طيلة ما بعد اندلاعها وحتى راهننا.

وإذ يقول بأنها “غير قابلة للاحتواء”، يعترف الجنرال الصهيوني بعجز وفشل آلة قمعه المنفلتة، والتي يردفها التعاون الأمني الأوسلوي، في وئد هذه الحالة الثورية النضالية المتواصلة التي هى في شهرها الثالث، وإن هو نجح بالتعاون لا القمع حتى الآن في محاصرتها.

…في القمع والبطش ارتقى بمعهوده السابق إلى جديده المتمثل في الاعدامات الميدانية اليومية، التي تقول الاحصائيات الأخيرة أن 68% منها قد وقعت على الحواجز العسكرية، 84% منها كانت اعدامات مباشرة، و19% من ضحاياها هم من الأطفال. وفي توصيف هذه الإعدامات يقول شاهد من اهله هو جدعون ليفي، في صحيفة “هاآرتس: ” “إنهم يقتلون من يحمل السكين أو حتى المقص، ومن يضع يديه في جيبه، أو يفقد السيطرة على سيارته. يقتلون بلا تمييز- نساء، رجال، شباب وشابات- يطلقون النارعليه وهم مازالوا يقفون على ارجلهم، وأيضاً بعد “تحييدهم”، يطلقون النار من اجل القتل للعقاب، للتنفيس عن الغضب للانتقام”.

…هذا الفشل تجلى في بدء تخليهم عن سياسة اعتقال الشهداء، بمعنى احتجاز جثامينهم اشهراً ورفض تسليمها لذويهم إلا بعد إقرار هؤلاء باستلامهم ودفنهم ليلاً، للحؤول دون تشييعهم جماهيرياً، وكذا عدم فتح بيوت عزاء لهم، وكله تفادياً لما يستتبع من مواجهات مع المحتلين، ثم اضطرارهم الآن للعودة عن هذه السياسة، أو الإفراج عن الشهداء بتسليمهم لذويهم، بعد أن رفض ذووهم استلامها وفق هذه الاشتراطات، وعجَّل من هذه العودة ثبات عدم جدواها لجهة التقليل من من تصاعد الانتفاضة، بل على العكس كان من شأنها أن اسهمت في تأجيجها.

وإذ هذه الانتفاضة عند الجنرال الصهيوني وكيانه الغاصب غير متوقعة وغير قابلة للاحتواء، فهى ايضاً عنده عصيَّة على التعريف…في عجزه هذا بحد ذاته ما يعكس رائع هذا الإعجاز النضالي الفلسطيني التليد المتمثل دائماً، ولاسيما في المنعطفات المصيرية بالذات، في القدرة الأسطورية على ابتكار مستجد ومناسب الأشكال والسبل النضالية المتاحة والمتوائمة مع ظروف هذا الشعب المناضل المستفرد به، والتى أقل ما يقال فيها أنها الصعبة والمشوبة بقدر غير مسبوق من التعقيدات واختلال الموازين لصالح عدوه، لاسيما في مثل راهن هذه المرحلة العربية والفلسطينية الأسوأ والأردأ في تاريخ مجمل الصراع على فلسطين.

هذا الإعجاز النضالي المبهر، الذي عجز جنرال دموي مثل غادي ايزنكوف عن تعريفه، لايتمثل فحسب في مبتكر اشكاله المستجدة وغير المتوقعة، كالسكاكين الطاعنة والدواليب الداهسة، وسائر ما يتجلى في راهن العمليات الفدائية الفردية المتواصلة وما ستتطور اليه مستقبلاً، وإنما في هذه القدرة العنيدة على الاستمرار في ظل كل هذا الحجم الهائل من منفلت البطش وجنون القمع وشهوة التقتيل، الذي يعضده موضوعياً، ومن أسف، بذل السلطة الأوسلوية مستطاعها في محاصرة انتفاضة شعبها ، ليس بمنع محازبيها ومنتفعيها من الالتحاق بها فحسب، وإنما بمواصلة أجهزتها مطاردتها للمقاومين، وموالاتها لشائن التنسيق، أو التعاون، الأمني مع الاحتلال، أو، وموضوعياً أيضاً، تحالفها معه لوئدها، وأقله محاصرتها واعاقة شموليتها…يضاف اليه، ومن أسف أيضاً، أن الفصائل التي لاتني في كيل التمجيد للانتفاضة قد اكتفت بما تكيل وركنت إلى مجرَّد الترحم على شهدائها، إما عجزاً منها، أو درءاً لكلفة الالتحاق بها. وعليه، فشلت حتى في ركوب موجتها.

…رائع الحملة الشعبية التكافلية الجامعة للتبرعات الهادفة لإعادة بناء منازل عائلات الشهداء التي يهدمها العدو، أو ما كان المفترض أنه من واجب السلطة، التي لم تجروء، أو كما هو المتوقع من مثلها، على الإقدام عليه، كما لم تسارع الفصائل لكي تتبناه، ولم يلتفت إليه عرب المرحلة بعد أن نسو ا قضيتهم القومية وشعبها، ما هى إلا واحدة من تجليات مثل هذا الإعجاز النضالي العنيد وتجدد اشكاله الدالة على  اسطورية صمود شعب مناضل ولا محدودية عطاءاته وتضحياته المنداحة إلى مستويات غير مسبوقة، بحيث يعجز واحد كالجنرال ايزنكوت عن مجرَّد تخيلها، وبالتالي لايقوى بكل ما يتوفر له من قوة على احتوائها، ومن ثم يصعب على من هم مثله تعريفها.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى