سمير القنطار…العروبة هوية وفلسطين البوصلة

كانت فلسطين ساعتئذ في أوج كونها بوصلة أمة بكاملها. إليها وحدها آنذاك انشدَّت اطراف كتلتها المترامية، وباتجاه قواعد فدائييها اتجهت اربع اتجاهاتها. تقاطر إلى تلك القواعد مناضلو الأمة واستشهاديوها من مشارقها ومغاربها، حيث كانت فلسطينها العابرة لعاهة قطرياتها المزمنة هى وحدها وتظل الجامعة المانعة والمافوق رزايا التطييف ووباء التمذهب…كانت القضية المركزية، وسيدة الانتماءات جميعاً في الوعي الجمعي العربي، ومن خالفه في حينه، وهم غير قليل، لم يجروء على عدم مسايرته. إذ حينها لم تك الخيانة قد ارتقت بعد إلى مرتبة وجهة النظر، ولا كان التواطؤ قد لبس مزهواً مسوح الواقعية، ولا توَّج الاستسلام اعتدالاً…وكان الكيان الصهيوني، وحتى بالعربي الرسمي، يدعى عدواً لاحليفاً!

وإذا كانت العروبة، التي هى نحن، والعروبة وحدها ولا سواها، هى هوية هذه الأمة، والتي هى وحدها، ولا من سواها، ملاذها ومحصِّنها مستقبلاً من تداعيات كل ما يعج به راهن حالها الأمقت الأسوأ، أو الذي بات مرتعاً خصباً لداحس وغبراء فتن تلد واحدتها الأخرى، وقودهن فحيح التطييف ورهاب التكفير وتليد الاستبداد، وكل هاته العواهن التي هى خير ما اتاح لكواسر الأمم وبواغثها على السواء تناهشها الراهن  للمشاع المستباح من ساحاتها والسائب المتهتك من حرماتها…فإن فلسطين الآن، والآن بالذات، ليست كما كانته فحسب، وإنما ما هو الأكثر منه بكثير…كانت هوية نضالية، وليست زمرة دم، أو مسمَّى قطري كغيره، واليوم هى أكثر بكثير من بوصلة، وأكبر بكثير من قضية مركزية، لأنها باتت، وشاهدنا راهننا هذا، تعادل مسألة وجود وقضية بقاء ومستقبل لأمة بأسرها.

…كل هذه المعاني جسَّدتها مسيرة الشهيد القائد سمير القنطار النضالية، ويعيد طرحها علينا نبأ استشهاده، إلى جانب سؤال آخر، وهو، وكيف لايستشهد ؟! لقد كان الصبي العربي اللبناني، أو الشبل وفق مصطلحات الثورة في حينها، الذي التحق بقواعد الثورة الفلسطينية وهو لم يتجاوز بعد الرابعة عشرة من عمره، قد وطَّن النفس سلفاً على أنه مشروع شهيد. وكان الفتى الفدائي، الذي ابحر مع رفاقه الثلاثة بقارب مطاطي إلى سواحل فلسطين المحتلة، قائداً لعملية جمال عبد الناصر، والهدف قاعدة للاحتلال في مستعمرة نهاريا في العام 1979، يضع، هو ورفاقه الثلاثة، الشهيدين مهنا المؤيد وعبد المجيد اصلان والأسير احمد الأبرص، الشهادة واحدةً من حساباتهم…وعندما اصيب بسبع رصاصات في المعركة وأسروه، اخرجوا ما بقي منها في جسده وتركوا واحدة قالوا له أنهم تركوها عامدين لتبقى له على سبيل الذكرى، وحكموا عليه بالسجن 547 عاماً، ليُكرهوا على الأفراج عن عميد الأسرى العرب بعد 29 عاماً من أسره في صفقة تبادل للأسرى اعقبت عملية الرضوان أملتها عليهم المقاومة اللبنانية في العام 2008، كان أول ما قاله لمستقبليه واسمعه لمن أُكرهوا على الإفراج عنه: “لم أعد من فلسطين إلا لكي أعود لفلسطين”.

وكيف لا يستشهد وهو القائل في أول يوم من امتلاكه لحريته: “لن اتقاعد”، ولم يتقاعد في زمن كم هم من تقاعدوا من مناضليه السابقين. كيف لا، وقد بدأ فدائياً من اجل فلسطين، وأسر وهو يناضل من أجل تحرير فلسطين، وفُك أسره وظلت وجهته فلسطين…أسروه مقاوماً في صفوف الثورة الفلسطينية، وغادر أسرهم ملتحقاً بالمقاومة اللبنانية، واستشهد مؤسساً للمقاومة السورية في الجولان المحتل… من قواعد الثورة إلى الأسر ومنه إلى ساحات المقاومة، ومن هذه هى سيرته ظلوا منذ أن أُجبروا على اطلاق صراحه يحاولون اصطياده. حاولوا اغتياله 6 مرات، آخرها الصيف الماضي في الجولان حيث استشهد يومها جهاد عماد مغنية، وكتبنا حينها عن ما استشرفناه إثرها فعنوناه ب”قومية المقاومة”…كان حكاية اقدام وبطولة، وبات رمزاً وأمثولة، وباستشهادة غدا في سفرنا النضالي اسطورة…

…إنه الانتقام، مقدَّسهم التليد ورديف حقدهم المعتَّق، هذه المرة كان لسان حالهم ما عقَّبت به صحيفة “يدعوت احرونوت” وهم يحتفلون باستشهاده، قالت: “لأسرائيل حساب دموي طويل مع سمير القنطار…بادر بعمليات ضد اسرائيل منذ أن كان في سن السادسة عشرة وحتى اليوم”، لكن كان الأهم منه عندهم أنه كان لايفرِّق بين جبل عامل والجليل ولا بينهما والجولان، وأنه قد بدأ يزرع على السفوح الشرقية لجبل الشيخ بذرة المقاومة…فاستحق أن يشهد له عدوه على لسان المعلق العسكري في قناته التلفزيونية العاشرة: إن “اسرائيل خبرت الكثير من الأشرار لكن القنطار يعتبر في نظرها بين الخمسة الأوائل”، وأن تُشرِّفه الولايات المتحدة فتضع اسمه على قائمة الإرهاب…وأن يعترف هذا العدو مُكرهاً بهذا الأهم على لسان صحيفة “هآرتس”حين قالت أن اغتياله قد “كان تحسباً من فعل مستقبلي وليس تصفية حساب قديم” فحسب.

ولأنه من هؤلاء الخمسة الأوائل في رأس القائمة عند عدوه، وعروبته هويته وفلسطينه بوصلته، فتحت أم أحد رفاقه في الأسر بيت عزاء في غزه بعد سماعها بنبأ استشهاده…وكم كان معيباً، بل ومقززاً، أن يطل علينا من هنا ومن هناك شامت من بني جلدتنا، وما هذا بمستغرب، بعد أن بتنا في زمن فيه الخيانة وجهة نظر والتواطؤ عقلانية والاستسلام اعتدالاً…ترجَّل الشهيد القائد سمير القنطار وسيرته خطت وصيَّته ووقَّعها بدمه، والتي من بعده تقول، إنه ليس الأول ولن يكون الأخير في قافلة لن تتوقف وسيظل حداؤها إما فلسطين أو فلسطين…

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى