انتفاضة ولم تعد هبَّة

لم يعد من الممكن الآن الاقتصار على نعت الحالة النضالية الفلسطينية الراهنة بالهبَّة، لأن هذا التوصيف لا يحمل في طياته اصلاً، أو في نهاية المطاف، سوى مآلين: إما سرعة خفوت يعقب هبوباً، أو الثبات والتصاعد والتطوّر فالتحوّل إلى ماهو الأكثر رسوخاً والأكثر تعاظماً والأقرب إلى منشود الاستدامة، وهذا ما هو حاصل الآن، أو ما هو حالها الذي بلغته وهى تدخل شهرها الثالث، وبالتالي باتت هى ما ينتفي جواز نعته بعد بالهبَّة.

كنا، وإلى وقت قريب، ممن يصفها بالأكثر من هبَّة والأقل قليلاً من الانتفاضة الشاملة وفي سبيلها اليها. ومنذ البدء قلنا، سمّوها ما شئتم، فما هي إلا شكل نضالي من مبتكرات شعب مناضل، ومحطة مستجدة من محطاته الكفاحية المتلاحقة، أو متوالياتة منذ أن كان الصراع وحتى يحين حسمه لصالحه، ولسوف تكون لها كسواها من هذه المحطات، البادئة بهبَّة البراق، سماتها الخاصة بها المنسجمة مع راهنها، أي مع ظروفه الذاتية والموضوعية التي يمر بها في هذه المرحلة من صراعه التناحري الوجودي طويل الأمد. واليوم نقول، نعم، لقد باتت الآن ما لايمكن وصفه بغير الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، والتي تثبت برسوخها وعدم تراجعها أنها في سبيلها لأن تغدو الشاملة المنتظرة، وإن لها أيضاً  سماتها وخصوصياتها، ومنها أنها حتى الآن المختلفة عن سابقتيها بإثنتين:

عن الأولى، في استحالة سماحها لأحد أن يركب موجتها ليصرف حصاد تضحياتها ودماء شهدائها في بازارات التسويات التصفوية لأنبل قضية عرفتها البشرية. وعن الثانية، في أنها إذ اندلعت لم تستأذن فصيلاً، أو تستأنس برأي لجهة في الساحة، وإذ تواصلت واتسعت وتصلَّب عودها لم تلتفت إلى ما انهالت عليها من تنظيرات جائتها من كل حدب وصوب، وحتى ممن لديهم الجرأة من القاعدين والمتقاعدين عن النضال، أن يرسموا لها مساراتها ومآلاتها…والتي انفردت عنهما أيضاً في كونها تواجه خصمين في آن:

الاحتلال بكل جبروته ووحشيته، وسلطة “اوسلوستان” بأجهزتها المنسِّقة أمنياً مع المحتل، أو أداته موضوعياً في محاصرتها ومحاولة الحد من انتشارها ومنع شموليتها…وإن هذه المواجهة تحتدم والعالم غير العالم والأمة غير الأمة. العالم يتجاهل، والأمة منشغلة بحالتها التي لاتسر صديقاً وليس بأفضل منها لعدو، أو المفجع المعروف وما لا حاجة بنا هنا لتوصيفه.

هذا يعني أنها انتفاضة على العدو وعلى تركة السطو الأوسلوي الكارثي على حصاد سابقتيها والمستفيدة من دروسه المرة، ليتحول فيها الحجر إلى سكين مطبخ أو عجلة سيارة، وتُردف المواجهات الشعبية الحاشدة بالعمليات الفدائية الفردية، والتي يعترف العدو الآن أنه العاجز عن مواجهتها أو عدم القدرة على منعها…ابتكار نضالي جديد مما لاتفرغ منه جعبة لعبقرية نضالية مبدعة عوَّدنا على امتلاكها شعب مناضل، ويشكِّل استمرارها في حد ذاته، على باهظ ما سيُبذل فيه من غال التضحية، عامل استنزاف فاعل لايقوى هكذا عدو له مثل طبيعته على احتماله طويلاً.

هذا العناد النضالي الفلسطيني المعمَّد بالدماء الزكية الطهورة، والذي يشحذه ويزيده القمع الصهيوني الحاقد صلابةً ورسوخاً، لم يعد بالإمكان تسميته في شهره الثالث بغير الانتفاضة الثالثة والمتميزة بجديدها المشار اليه، أو بمبتكراتها النضالية الخاصة بها وحدها والمتفرِّدة عن سابقتيها بها…كل عملية تخلق عملية أخرى”، هذه العبارة هى جزء من صراخ لمحلل صهيوني من مثل ناحوم بارنياع في صحيفة تنضح صهيونيةً من مثل “يدعوت احرونوت”، مستهولاً تواصل العمليات الفدائية الفردية، التي اربكت وافزعت وحيَّرت المحتلين واخرجت إلى العلن الخلافات التي لم تعد تكتم بين المستويين السياسي والعسكري لديهم. ورغم أن الكيان الصهيوني برمته هو ثكنة وجمهوره بكامله مجنَّد فيها، أو كما يقولون، جيش له كيان وليس كيان له جيش، وكافة سياسيوه استولدوا من رحم المؤسسة العسكرية والأمنية، لكنما افزع محلل آخر، هو عوزي برعام، أن هؤلاء السياسيين قد باتوا مجانيين دمويين في حين أن عسكرييه المدركين لاستحالة مواجهة العمليات الفدائية الفلسطينية الفردية غدو أكثر عقلانية منهم…مثلاً: راهن الاعدامات الميدانية على الشبهة، والقمع المتوحش الحاقد، والعقوبات الجماعية المفرطة في لاإنسانيتها، وكل جاري الإرتكابات الهمجية البالغة حد احراق الرُضَّع، والتي لم تعد على مرتكبيها إلا بعكسها، لا تُرضي الوزير نفتالي بينت  ويصفها بأنها مجرَّد “نكتة”، مطالباً بسفك المزيد من دماء الفلسطينيين، بحيث بدا امثال نتنياهو ويعلون إلى جانبه حملاناً…يقول برعام: “نحن عيش في عالم غريب حيث اصبح الجيش واقعياً أما السياسيون فهم الفظون الذين يعتمدون فقط على القوة، اسرائيل 2015 هى عالم مقلوب”.

لم يك الصهاينة يوماً بغير ما افزع برعام، ولذا كان من المنطقي افشالهم لتسهيلات كيري التي ما كانت إلا لنجدتهم وانتشالهم من ورطتهم بالحؤول دون انهيار سلطة اوسلو وافتقادهم بركات تنسيقها الأمني معهم، ثم يبحثون، لكن من دون هذه التسهيلات، سيناريوهات انهيارها، أو تمرُّد أجهزتها…مؤشرات عملية شهيد حاجز حزمة الضابط في استخباراتها مثلاً… تداركاً لها أوتعاطياً معها. أما هذه فاكتشفت أخيراً، وعلى لسان صائب عريقات، أن “الإدارة الأميركية باتت حليفة لأسرائيل أمام الملأ”، لكنها وعلى الرغم من هذا الاكتشاف المدوِّي تعرب عن عزمها على بحث سبل مواجهة فشل تسهيلات المفضوحة إدارته أمام الملأ “بسبل غير عنفية”!!!

…لأنهم الغزاة وليسوا من ترابنا عجزوا عن فهم تضحياتنا، ومن يزوِّر التاريخ ليعتدي على الجغرافيا مآله أن يطرد منهما.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى