المشهد الفلسطيني الاستثنائي في الواقع العربي واحتمالاته !!

لا بأس ولا غضاضة في أن نرى داخل الفاجع العربي الراهن المشهد الفلسطيني المقاوم المختلف والمعبأ بكل الاحتمالات الرمزية الواعدة، وقدرته على الاستنهاض وإطلاق العنان لتصورات قومية ايجابية ذات أبعاد تاريخية ، واستيلاد فضاء جديد في الحياة العربية المتشظية يؤكد ويكرّس خيار المقاومة وقدرة الأمة على المواجهة بالإرادة والصدور العارية وبكل ما هو رمزي ومخبأ في الضمائر والعقول من صور الارتباط والتعلق بالوطن ومصيره التاريخي. .
ونحن هنا لا نزعم بأن المشهد الفلسطيني المقاوم الراهن سوف يقلب كل المعادلات الكارثية السائدة في الوطن العربي ولن يوقف بأي حال أزمة النكوص والتراجع المستفحلة ، لكنه كما يتبدى ونفترض وفي معانيه ومآلاته البعيدة : فضاء ، واحتمال ، واستكمال ، فهو فضاء ايجابي بطولي مختلف يمكن للعرب أن يروا صورتهم المستقبلية المغايرة والمتخيلة فية ، وهو احتمال في أن يؤسس لعقل سياسي عربي شعبي جديد يرى المقاومة طريقا وخيارا إلزاميا ، ويطّرح كل ألوان الاستخذاء للأعداء ، وخصوصا بعد أن تبين أن ما حصّله العرب عن طريق هذا الخيار هو أكبر وقعا وأثرا بكل القياسات من كل الخيارات الأخرى ، وهو استكمال لنضال فلسطيني وعربي بدأ واستمر طوال أكثر من قرن عبرت فيه الأمة مخاضات شتى وبقيت تقاوم الظلم والتبعية بكافة الطرق والأشكال ولم تعلن استسلامها وبقيت متمسكة بثوابتها الوحدوية والنهضوية ونزعتها للبقاء في التاريخ ذاتا له لا موضوعا من موضوعاته .
وفي أحيان كثيرة يتحول الاستثناء إلى حالة رمزية لافتة ومكوّنة عندما يخترق السائد والراكد والمتراجع ويقدم مضامين ومفردات مغايرة ويقلب الراهن ومسلماته ويخلخل المعادلات القائمة باختراقه للمألوف والمستحيل التفكير فيه فيصبح دعوة وصرخة ونداء لاستبصارات جديدة ودافعا لثقافة إدراك من نمط مختلف فيها ما فيها من الايجابية والدافعية للحركة واستنهاض العزيمة وتحدي ما هو قائم وكل ما هو معيق للحرية والاستقلال .
وإذا دققنا الآن في الاستثناء الفلسطيني النضالي المقاوم المدهش الذي يتولد داخل لا معقول عربي منقطع النظير وفي أفق إنسداد لا مثيل له فإننا لابد سنلاحظ أنه انطلق من حالة استعصاء وانحباس وإنسداد مفزع لكن الإرادة الوطنية الفلسطينية استولدت بعقلها المتمسك بحقها التاريخي وفائض عزيمتها في تحدي العنصرية الصهيونية وهي في أعلى مراتب قوتها المتوحشة ، برنامجها في المقاومة من داخل هذا الواقع والجدار الأصم انطلاقا من فهم واضح لقضية الوطن وحريته والتضحيات المطلوبة لتحريره أو تغيير الوقائع فيه تمهيدا لبناء حاضره ومستقبله بطريقة ضد صهيونية ورغما عن وتحديا لقوتها الباطشة والمتوحشة .
والأفق النضالي التاريخي العربي لا ينفتح ” كما نقدر ونحسب ” إلا بهذه المبادرات والمقدمات النوعية التي تهدم وتلغي الكثير من المسلمات المتأسسة على ”وقوعية سياسية ” تختلف في مضمونها ومسبباتها ونتائجها عن ”الواقعية السياسية” التي تدرك الألوان والتجليات المتعددة التي يفرزها الواقع وتكيّف أساليب النضال والمواجهة طبقا لمعطيات ومعادلات ورقمية مضبوطة وتنأى بها عن الحمق والنزق والتهور والارتجال وتحرر في الوقت نفسه الواقع من أوهامه وما يمكن أن تستدرجه اليه الأحلام المضادة والمنافية للواقع .
الحالة الفلسطينية النضالية الاستثنائية الراهنة تصلح أن تكون مثالا وأنموذجا إرشاديا من طراز رفيع ( يمكن أن يوضع أمام عقل الأمة ) في القدرة على تقدير المواقف واختيار اللحظة والمزاج الشعبي الوطني المناسب لاستنبات أرضية وافتتاح أفق في أفق الانسداد بإطلاق هبّات وانتفاضات نوعية ومغايرة مهمتها أولا تحدي واستنزاف العدو الصهيوني وإبراز عنصريته وفضحها في الأوساط الدولية ، وهي إعلان متجدد عن الحضور الفلسطيني في التاريخ وإصراره على انتزاع حقوقه الوطنية ، ونداء للأمة بغية الانتصار على تناقضاتها والتجمع والتوحد أمام التناقض التناحري بين العرب والصهاينة وبين الأمة والاستعمار بكل أشكاله .
وهذا ما يعني في معانيه البعيدة امكانية تحويل الاستثناء إلى حالة حافزة وجاذبة ، وهو ما يمكن أن يولد أسئلة جديدة في الواقع العربي ودعوات جديدة لاستنهاضه وتحريك قواه القومية النهضوية من أجل ابتداع وسائل جديدة لوقف التراجع واشتقاق بدائل ” استثنائية ” على الطريقة الفلسطينية تكون أرضية لإنقاذ الأمة وأفقا جديدا لابتداء مرحلة ناهضة من الوعي التاريخي في حياة العرب .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى