“وداعا أيها الحزن”

وكنا قد قرأنا ذات صبا، رواية الكاتبة الفرنسية فرانسواز ساغان” مرحبا أيها الحزن”، الحزن الذي اجتاح حياتها، وسبّب لها الملل والندم وتأنيب الضمير. لكنه كما تقول لاحقا: “اليوم، فإنه يغلفني مثل شبكة حريرية واهن ورقيق، ويضعني بعيدا عن أي أحد”.

لكن حزنا من نوع آخر تنفرد به قصة للأطفال، وضعتها الكاتبة الفرنسية روكسان ماري غاليّه، هي” وداعا أيها الحزن”  Farewell Sadness  والتي وضع رسومها الفنانة ساندرين لوم وترجمها ناصر ميرخان، وقامت بنشرها دار الأصابع الذكية للنشر في دمشق عام 2010  .

ترجمت القصة بعنوان” آكِلُ الحزن”. ما يشدّك في هذه القصة، هو التناغم الكبير بين الرسومات والكلمات، حتى لتشعر بأن موسيقى خفية تنبعث مع حالات الحزن والفرح، تتصاعد كلما اجتاح الفتى حزن لا يتحمله، ثم تتناغم حين يسيطر على الحزن وكانها قصة موسيقية تنتمي لعالم الفالس أو التانغو..

يشيع اللون الأخضر المائل إلى الأصفر والفتى يجول بين السهوب والتلال التي تغطيها الأزهار، وتزحف في ركن من أركانها الدودة الحمراء الزاحفة المسماة عندنا”أم علي”. يقول الفتى (ذاتَ مرّةٍ كنتُ سعيدا.. كنتُ بخيرٍ). ثم في الصفحة التي تليها نرى تجهما في الجو حين تأتي موجة كبيرة من الحزن على شكل خيوط سوداء متشابكة(وجاءَ الحُزْنُ. حُزْنٌ كَبيرٌ، وَأنَا صغيرٌ). وهنا ابتدأ صوت الموسيقى يتعالى والتي يسمعها فقط القارئ، وتميل اللوحة إلى اللون الرمادي( حُزْنٌ كَبيرٌ لِدَرَجةٍ أنّهُ اجْتاحَنِي، وَغَمَرَنِي، والتَهَمَنِي. حُزْنٌ ثَقيلٌ إلى حَدٍّ لمْ أسْتَطِعْ أنْ أحْمِلَهُ، فاضْطَرَرْتُ أنْ أقْضِمَهُ بدَوْري لأخْرُجَ مِنْهُ). ويضيع الفتى بين خيوط الحزن المتشابكة. لكن الفرح يبدو يتسلل حين تتحول اللوحة إلى اللون الأخضر، والفتى يفتح فمه ليبتلع الخيوط( حينَها أكَلْتُهُ، أكَلْتُهُ،أكَلتُهُ...)، وتهدأ الصورة والموسيقى تخفت، واللون الأخضر الهادئ يغمر الصفحة( فأخَذَ الحُزْنُ ينسحبُ. ظننتُ أنني قدْ تحَرّرْتُ. لذلك تابعتُ، تابعتُ، تابعت).

(وذاتَ يومٍ لمْ أعُدْ أرى الحُزْنَ. لقدْ اختَفَى. لَكِنّهُ تركَ شيئاً ما في أعْمَاقي. لا أعرفُ كيفَ أُعَبّرُ عنهُ. لمْ أعُدْ سعيداً كسابقِ عهدي، أصبحتُ مختلفا). ويكبر ظلّه من خلفه وهو يجلس حزينا على حافة الكون يرقب القمر الحزين(أمسيتُ أكبرَ من الحُزْنِ. يمْكِنُهُ أن يعودَ، فأنا لمْ أعُدْ خائفاً من شيء. هذه المرّة لنْ يَسْحَقَنِي). ويقف الفتى يتأمل من بعيد صورته المتضخمة ودمعة تسيل من عينه( لكِنّ الشخصَ الذي رأيْتُهُ في المرآة لمْ يعُدْ يُشْبِهُني. صرتُ أجهلُ نفسي. لمْ يعُدْ هناك من حزنٍ لآكُلَهُ، لذلك بحثتُ عن أصْغرِ دمعةٍ، وشَرِبْتُها). حزن صامت وصدى موسيقى يبعث على الكآبة.

ثم تنبعث موسيقى وتتعالى مع اجتياح اللون الأخضر البهي، وأوراق الشجر المتطايرة على شكل قلوب تتجه من جهة ما لناحيته( عندئذٍ تعرّفتُ إليكِ. سمعتكِ تضْحَكينَ قهقهاتٍ كالبرقِ بنكهةِ السعادةِ. طازجةً، حلوةً، وعذبةً. هذه الضحكةُ، تَذَوّقْتُها. وَوَقَعْتُ في الحُب).

وتصخب الموسيقى وأوراق الشجر تتطاير باتجاه خيوط الحزن السوداء لتأخذها بعيدا( وكلّما تغلغلتُ فيّ ضحكتُكِ أكثر، خرَجَ مني الحُزْنُ الأعمق… لمْ أعُدْ بحاجةِ درعٍ ثقيلٍ. إذا عادَ الحزنُ، سأطلقُ عليه ضحكاتٍ سعيدةً ليطيرَ. الحزنُ خفيفٌ جدا أمامَ ثِقَلِ الفرَحِ). يتطاير الحزن، ليجثم الفرح ويغطي اللوحة الخضراء وورقة شجر كبيرة على شكل قلب تغطي الفتى، وأوراق أشجار تغطي السفوح(الآنَ، حينَ أنظرُ إلى نفسي، أعرفُ نفسي. أنا ذاكَ الشخصُ الذي يُحِبُكِ عندما تضْحَكينَ. أنا ذاك الشخصُ الذي كُنْتُهُ من قبلْ، أنا بخيرٍ. أنا سعيدٌ).

وباتجاه القمر المشرق الكبير، يسير وإياها ، والأيدي متشابكة نحو التلال العليا، والفراشات تطير( يمكنُ للحزنِ، بلْ حتّى للأسَى الكبيرِ أنْ يقتربَ. الآنَ… أنا مُسْتَعدٌ).

لم يتلاش الحزن، فهو جزء من طبيعة البشرية. لكنه يخفت حين يلوح الأمل، الحب.

قصة تحمل كل معاني العفوية، دون وعظ وإرشاد كما تفعل كتب الأطفال. اتبع فطرته، واستطاع الحب أن يقلب كل كيانه، وامتلك نفسه بقوته الداخلية ليستطيع أن يقود حياته بنفسه.

هل الحب يجدد حياة الإنسان؟

تقول فرانسواز ساغان:” الحب يدوم سبع سنوات تقريبا. وهذا ما تستغرقه خلايا الجسم لتجديد نفسها كليا”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى