نظرية الفراغ وأهوالها  !!

الفراغ الذي نتناوله هنا هو الفراغ والاستنقاع العربي بكافة أشكاله وتجلياته وكل ما أصبح يثير شهية الدول الأخرى للافتراس والاستثمار السياسي في ساحة  الفراغ هذه  ومجتمع الفرجة العربي الذي تكون وانبنى مأساويا داخل هذا الفراغ وإنسداد الآفاق في طريق استدراكاته لاجتراح طريقة لملء وتبديد الفراغ .

نشأ الفراغ من غياب الذات وغياب الحضور وتشرذم السبل وتشتت الجهود وتبديد القدرات وتحول الأوطان ومكوناتها إلى جغرافيا مجردة من المعنى القومي -التاريخي ، وبزوغ تاريخ واقف مستباح تجتهد أطراف خارجية في تأويله وصياغته صياغة استعماري – استتباعية جديدة وبطرق تخدم مصالحها  على اختلاف مشاربها وتوجهاتها وانحيازاتها ، ووفقا لهذه الأطروحة الكارثية والمؤرقة نكون بهذه المثابة  وبفعل أيدينا وأدواتنا من أنشأ هذا الفراغ وغدونا نتفرج مكرهين وبلا حول ولا طول على تداعياته وتحدياته وتفاعلاته ، وتلك بحد ذاتها فاجعة من مستجدات الأمور التي نحياها عقلا ووجودا ولا نرى سبيلا واضحا لمواجهتها والرد عليها .

ونرى الآن الاستجابات محدودة في هذا الإطار والخيارات المتاحة كارثية ومريرة على كل حال إذ حشرتنا الظاهرة النكوصية ونظرية الفراغ وحيثياتها ومجرياتها أن نختار بين استباحات متعددة لا أن نفكر بوقف الاستباحة أو نفكر بالمواجهة ، وكأن علينا أن  نختار الآن الغاصب والمحتل بجنسياته المختلفة  الامريكية- الايرانية – الصهيونية – الأوروبية وتحويل مهمتنا في أن نجد لذلك التفسيرات والمبررات العقيمة المعبرة عن حالة الفراغ والعجز والغياب باستحضار ايديولوجات وترهات ومقولات وأدوات فكرية مثلومة وشاردة وغابرة وبالية للإجابة على سؤال ومحنة الغياب وكوارث الانقضاض على الفراغ العربي وإشغاله استعماريا.

ولا مرية في أنه عندما تغيب الأمة والهمة والإرادة والقرار يحضر الفراغ  ويحتل العقل والواقع ويصبح الناس سكارى وما هم بسكارى إذ يختلط لديهم الأمر “وتتشابه عليهم البقر” ويصبحون في كبد والتباس وأمام واقع مزرِ يلح على ابتداع تعريفات وتأويلات جديدة للحال والمآل النكوصي المتراجع ويهمل أية مسلمات وقناعات قامت عليها فكرة الأمة الواحدة وكيفيات مواجهة التحديات الخارجية ولا ينصت للمتفرجين وهو يراهم على الهامش سادرون في هذا الاندهاش والغياب المريب .

ولابد لسائل أن يسأل : كيف تحضر الأمة في مثل هكذا محنة ؟ وكيف تكتشف ذاتها المغالبة وهويتها التغييرية ؟  وهو السؤال التاريخي العميق الذي يراد له ( إذا أخذ حقه من الجدية والاهتمام ) إنبناءً عقلانيا وقراءات وتمحيصا وانكبابا على مراجعة الخيارات والتحديات واستنهاض الهمة والبحث عن سبل التجاوز، فالذي يغيب عن مجالنا هو الإرادة والهمة ووعي المأساة في أصولها وأعماقها وبما يجعلها معاناة يومية وسؤالا مؤرقا للجميع وحافزا على التغيير والاستنهاض وملء الفراغ ، وليكن من يرابطون ويدافعون عن فلسطين والأقصى مثالا وعبرة إذ نراهم يقاومون المخرز الصهيوني بهذه الهمة والإرادة ويحفرون قبرا واعدا لأحلام الصهاينة بهذا الصمود والعناد ، ولذا أصبحنا نرى الآن أن لا فراغ ولا وحشة في فلسطين وإنما الشعب الجبار الأعزل وهو يملأ المجال بانتفاضاته وثوراته ويجدد يوميا فكرة الوطن .

وهذا يؤكد مقولتنا بأن الفراغ ينشأ عندما يغيب الناس عن ذاتهم التاريخية وتتراجع لديهم  فكرة الوطن وتختزل في شكليات وعصبيات تحتية لا معنى لها ، وعندما يتركون قوى الهيمنة ترى الأوطان فراغا فتنقض عليها إحلالا وإبدالا وتغييرا لماهيتها من ماهية وجودية مناضلة ومجاهدة إلى ماهية متخاذلة وخانعة . ولا بأس ونحن في  مثل هذا القاع المفزع أن نؤسس لمواجهة نظرية الفراغ بهذه الرمزيات التاريخية وعلامات ومعاني الوجود المقاوم على الطريقة الفلسطينية القديمة  والراهنة ( وحتى لو تبدى ذلك للبعض على أنه من أنماط الإنشاء والترويدات المكرورة ) لعلنا بذلك نؤشر على نقاط البداية الصحيحة والخطى الجدية التي علينا أن نقدم عليها لملء الفراغ .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى