التماسك الشعبي هو الكفيل بالانطلاق الى الامام اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً
كتب ساطع الزغول
في محاضرته بالمركز الثقافي الملكي بدعوة من مؤسسة عبدالحميد شومان يوم الخميس الثالث من ايلول الماضي، وبحضور الامير الحسن بن طلال ونخبة من ذوي الشأن، القى الدكتور مهاتير محمد، رئيس الوزراء الماليزي السابق حجراً في عدة برك اردنية راكدة سياسية واقتصادية واجتماعية، حين تحدث عن تجربة بلاده خلال فترة حكمه التي ناهزت العشرين عاماً، حيث وضع ماليزيا على خارطة الدول ذات الكفاءة والملاءة، قياساً بما كانت عليه من كفاف وفقر وتنافر اجتماعي وتدابر.
عشرات الاقلام الاردنية تناولت محاضرة د. مهاتير بالاشادة عموماً، ثم عرّج كل كاتب على محور ما من محاور الحديث، او بعض النقاط التي تتفق مع رؤية او قناعات هذا الكاتب او ذاك، وقد اسهبت بعض التقارير بالوصف والتوصيف حتى بدا وكأن استنساخ تجربة ماليزيا في عهد الرجل هي التي ”تخرج الزير من البير”، لكن كاتباً اقتصادياً مرموقاً هو الزميل فهد الفانك، اشار في مقالة له بصحيفة الرأي بعنوان : ”مهاتير محمد والمعجزة الماليزية” الى ان ”.. هناك مبالغة كبيرة في تقدير المعجزة الاقتصادية التي تحققت في ماليزيا، فالواقع ان جميع بلدان الشرق الاقصى وليس ماليزيا فقط حققت نهضة كبيرة وقد اطلق عليها وصف النمور، ولم تختلف ماليزيا كثيراً عن غيرها من دول الشرق الاوسط التي نهضت في نفس الفترة وحققت المعجزة، بل ربما كان تقدم الدول الاخرى مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان اكثر مما تحقق في ماليزيا”.
كلام الدكتور الفانك يقود الى طرح سؤال عن سرّ الاهتمام بمحاور المحاضرة بهذه الدرجة الكبيرة؟ وربما اتى الجواب عن هذا السؤال في سياق حديث المحاضر الذي قال ان بلاده تشبه الاردن في جزئية التنوع العرقي، الى جانب محدودية الموارد، وفي التفاصيل قال المحاضر : ”كنا نقاتل بعضنا، فلم نكن نشعر اننا ماليزيون، بل صينيون وهنود وملايو، وهي الاصول التي تكوّن منها الشعب الماليزي، وبين تكفير وايمان، كنا نرفض اي تشارك في القرار او الحالة رغم تشاركنا في نفس المصير، الى ان وجدنا ان ذهابنا نحو استقلالية القرار يتطلب منا المشاركة المتساوية في دولة ستظل تجمعنا حتى النهاية، فجلسنا جميعاً على ذات الطاولة، وتبادلنا الافكار تحت عنوان الوطن للجميع”.
اللافت ان جزئية التعدد والتنوع والاختلاف والتدابر التي كانت ضاربة الجذور في عمق التربة الماليزية، قد ألقت حجراً في بركة وحدة المكون الديمقراطي الاردني، فظهرت بعد اسبوعين من المحاضرة خطابات ومقالات تحذر من المس بالوحدة الوطنية، وتحث على تقبل الآخر، وطفا على السطح مصطلح ”مختلف الاصول والمنابت” الذي نحته ذات تنظير احد السياسيين، وصار الكل يحذر وينظر، وكأن عدوى من نوع ما صابت اصحاب الاقلام والاحلام، وانتشرت انتشاراً ملحوظاً.
واقع الحال يشير الى ان مسألة الوحدة الوطنية التي يتغنى الناس بها تحتمل مدحاً وقدحاً، وهي اهم بند مسكوت عنه في مجريات الحياة اليومية على كافة الصعد، فهناك تيار ”اصحاب الحقوق المنقوصة”- ان جازت التسمية-، ودعاة ”الاردن للاردنيين” وهؤلاء واولئك يدعون وصلاً بليلى، وليلى منهم براء، لان خطاب المواطنة، ولا شيء آخر، هو الذي يجب ان يسود ويتصدر كل ما عداه.
في تلك المحاضرة ”المهمة” التقط سياسي ونقابي كبير من وزن د. ممدوح العبادي حديث الضيف عن التشابه الاردني- الماليزي في مسألة التنوع الديموغرافي، الى جانب محدودية الموارد فسأل الضيف في نهاية محاضرته عن :”الوصفة السحرية” التي جعلت بلاده تتجاوز ازمات ”الاصول والمنابت”، لتصل الى ساحة المواطنة والتشارك في الدولة، ما يعني عند المحللين ان د. العبادي كان يؤشر على وجود ازمة محلية ينبغي الاعتراف بوجودها، تم معالجتها من جذورها، مؤكدين ان المواطنة في دولة كالاردن هي التي تضمن حقوقاً متساوية وواجبات مشتركة لكل من في البلد من ”مختلف الاصول والمنابت والمذاهب” في مناخ يكاد يكون هو الانسب منذ سنوات طويلة في مسارات الديمقراطية والمواطنة والمساواة.
في محاضرته التي حظيت بحضور واهتمام بارز وكبير، عرج المحاضر على تجربة بلاده في النهوض التنموي والاقتصادي التي جعلت من ماليزيا دولة صناعية متقدمة، بعد ان تجاوز المجتمع هناك الصراعات والخلافات بين السكان من ملايو وهنود وصينيين، حيث تم التركيز الرسمي على الوحدة الوطنية بين فئات الشعب مع اختلاف دياناتهم، ما دفع الزميل عصام قضماني في مقالة له في صحيفة الرأي تحت عنوان ”طبيب في العائلة” الى القول : ”.. التجربة الماليزية كما يرويها صانعها نجحت في تحويل الرماد الى نار مجدداً، بالتعليم والمعرفة، وتأسيس مبدأ المواطنة وتوزيع واحترام الادوار في المجتمع وتعظيم الموارد من دون وصفات دولية، ما وضع اقتصادها على طريق النمو الثابت الذي وصل الى عشرة في المئة سنوياً، مقارنة بالنمور الاسيوية الاخرى”، مضيفاً قوله ”ان ما ميز تجربة الاقتصاد الماليزي انه نهض دون مساعدة صندوق النقد الدولي او البنك الدولي، فماليزيا في مواجهة الازمة وتدني سعر صرف عملتها لم تغلق الباب امام اقتصاد السوق، كما انها لم تمنع تدفقات الاستثمار الاجنبي، لكنها وجهته، كما انها استقطبت مليارات الدولارات الباحثة عن الاستثمار في الصكوك الاسلامية، فاصبحت من اهم مراكز الاستثمار – اسلامي الادوات – وحفزت السياحة بان مزجت بين النموذجين الغربي المنفتح والشرقي المحافظ، فحققت عائدات قياسية.
والسؤال هنا : أليس لدينا من يقرأ ويستنبط ويحفظ الدرس، خاصة وان المحاضر تحاشى في ردوده عن اسئلة استحثته على اسداء نصائح للمسؤولين الاردنيين التطرق الى اية وصفات مكتفياً بالقول ان مواطني هذا البلد – الاردن- هم الاقدر على تحديد مواطن القوة والضعف، واختيار الافضل لاقتصاد بلدهم، دون الحاجة الى وصفات جاهزة.
لقد اصاب مهاتير كبد الحقيقة، هكذا يقول المراقبون الذين يضيفون قائلين : لو اننا نجد بين ظهرانينا من يرغب في العمل والاستفادة، بعيداً عن النظريات التي تعشش في تلافيف الادمغة، وعن حسابات الخسائر والارباح والعوائد التي ستحط في الجيوب من الاموال المستقطبة للعمل في البلاد، وعن الاصرار النمطي على برامج السياحة في بلد ذي تنوع سياحي مهول، ترفيهي وتاريخي وديني، وحتى مذهبي.
لقد شكلت محاور محاضرة مهاتير وفقراتها وصفات ناجعة وخارطة طريق لكل من يحلل بنودها ويدرسها ويستخلص منها نتائج وعبرا تتواءم مع الحالة الاردنية، طالما ان هناك اجماعاً كبيراً على توافق وتشابه الحالين الاردني والماليزي، واذا كان هناك من دعانا قديماً لطلب العلم ولو في الصين، فلماذا لا نطلب اليوم الخبرة والتجربة ولو من ماليزيا ؟؟
في معرض محاضرته، يقول د. مهاتير بأن شعور الجميع بالاستفادة من خطوات التنمية شكل حافزاً لهم لدفع عجلة الاقتصاد، وشدد على مبدأ الشراكة بين الجميع من جهة، ومبدأ معادلة التوازن في الحقوق والواجبات من جهة اخرى، ما جعل الجميع يشعر بأن له حصة من كعكة التنمية، لافتاً الى انه تم التركيز على النمو الاقتصادي اكثر من التركيز على السلطة السياسية، ما صهر المكونات الماليزية في بوتقة النمو الاقتصادي، علاوة على الاستفادة من خصائص الاقتصاد الزراعي لدعم التطور الاقتصادي، وذلك من خلال توزيع وحدات من الاراضي التي تملكها الدولة، وعبر جمعيات، على مواطنين وفق النظام الفدرالي لتوزيع الاراضي.
أليس هذا الكلام على قدر كبيرمن الاهمية والنموذجية ؟ ألا يجب ان يكون حافزاً لدراسته، خاصة ونحن نسمع عن العديد من المتنفذين يعتدون على اراضي الدولة بيعاً واستثماراً بلا رادع او مانع، وان العديد من الاسر تركن الى القعود بحجة الفقر والعوز بانتظار المكارم ودريهمات صندوق المعونة الوطنية التي صارت تكرسهم كفئة يلقى اليها بما يفيض عن الحاجة.
متابعو محاضرة د. مهاتير محمد – ذلك الطبيب الذي دلف بوابة السياسة ولم يكن سياسياً – قالوا ان المحاور التي طرحها، تستحق العناية والدرس كونها وُلدت في بيئة تشبه الى حد بعيد بيئتنا الاردنية.. حيث الضعف الاقتصادي والعوائق العديدة التي تقف امام التنمية والنهوض، وانه حري بمسؤولينا واقتصاديينا وكل من لف لفهم الاستفادة منها في حال توافرت الارادة والنوايا الصادقة.
ويرى المراقبون انه كان على الذين سألوه النصح والارشاد ان يستخلصوا المسائل بعد تمحيص المحاضرة وخضها خضاً جيداً من اجل استخراج زبدتها، وقد اوردوا تلك الزبدة والنصائح في النقاط والمسائل التالية : –
المسألة الاولى : هي العناية بالبناء النفسي للانسان الماليزي والتي قامت على اعادة بناء الثقة بالذات من خلال الاصرار على النجاح ومقاومة الفشل ورفع رصيد الاعتزاز والانتماء الوطني لدى الاجيال الجديدة من اجل امتلاك الهمة العالية والمعنويات المرتفعة، وامتلاك الاصرار الكبير على التقدم والاصرار على تخطي العقبات، وهذا يحتاج الى ايمان عميق بالقدرات الذاتية بشكل جمعي، وقد تم الاستفادة من التجربة اليابانية في هذا السياق، وهنا يكمن حسن الاختيار.
والتوجه نحو الشرق، وحسن الاختيار، هو الخيار الامثل الذي ولّد النجاح، وليس تقليد واستنساخ تجارب غربية لا تمت لواقعنا وبيئتنا وظروفنا بصلة، شأن ما يفعله المتهالكون على الليبرالية الجديدة، التي لم تجرّ علينا سوى المصائب الاقتصادية والاجتماعية.
المسألة الثانية : اعطاء الاولوية والاعتبار للتعليم، وبناء القناعة لدى الآباء بارسال ابنائهم لنيل الدرجات العلمية بشكل واضح وكبير، من منطلق الاعتناء بالجيل الجديد القادم الذي سيتولى عبء النهضة، من خلال اكتساب المعرفة، والانطلاق نحو الامساك بناصية العلم والتخصص، لذلك سارع المسؤولون الماليزيون لتوفير حركة انبعاث واسعة وارسال الطلبة باعداد كبيرة الى بريطانيا والدول الغربية اولاً، استناداً الى عامل اللغة، ثم بعد ذلك ارسال مجموعات طلابية كبيرة الى الدول الاخرى التي تحظى بمستوى علمي تعليمي متطور، ومن بينها الاردن، حيث يدرس في جامعاتنا ما يزيد على الفي طالب ماليزي.
المسألة الثالثة : التوجه نحو بناء الوحدة الوطنية، وبناء التماسك الشعبي والتجمع حول هدف نهضة ماليزيا، وذلك من خلال القدرة على صناعة المشاركة العملية بين مكونات المجتمع الماليزي الذي يتصف بالتنوع والتعدد العرقي كالملاويين والصينيين والهنود والعرب الحضارمة واجناس اخرى كثيرة، لانه لا مجال للانطلاق الى الامام في ظل تصارع الهويات وسيادة النزعات الدينية والمذهبية، وهذا لا يعني ان من يريد صناعة النهضة الوطنية يتوجب عليه اتمام عملية الانصهار المجتمعي في بوتقة الدولة الواحدة ذات الهوية الوطنية الجامعة، القائمة على الرؤية الواحدة الاستراتيجية، والاطار الوطني الواسع، وليس تعدد الولاءات والمرجعيات والتكالب على المكاسب والمنافع الشخصية والفئوية.
المسألة الرابعة : القضاء على البطالة من خلال تهيئة فرص العمل لكل ابناء الوطن، ولكل القادرين على العطاء من الجنسين، مع ملاحظة ان المرأة الماليزية استطاعت ان تكون شريكاً فاعلاً وعضواً اصيلاً في صناعة النهضة بكل ثقة واقتدار، وقد جاء في المحاضرة ان الحكومة نجحت في ذلك الاوان بتخفيض ارقام البطالة بشكل مذهل اقرب الى المعجزة، ما يعني – حسب مهاتير- ان القضاء على البطالة شكل عتبة الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، نحو الولوج الى تحويل ماليزيا الى دولة صناعية قوية، بالاضافة الى تعظيم الموارد الزراعية بشكل ملفت للنظر.
المسألة الخامسة : تجنب وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين التي كانت الفخ المنصوب لوقوع ماليزيا في مصيدة الدين والتبعية الاقتصادية، لذلك كان القرار الاستراتيجي بالاعتماد على الذات، من خلال انشاء صناديق ادخارية كبرى تعتمد على الشباب الماليزي نفسه، وقد استطاعت هذه الصناديق ان تجمع رقماً ضخماً من المليارات التي شكلت رصيداً كبيراً ومذهلاً للدولة على صعيد الاستثمار وجلب المنفعة للشعب الماليزي كله، وقد استطاعت ماليزيا عبر هذه المسارات ان تنجو من براثن الازمة الاقتصادية العالمية.
المسألة السادسة: تمكين الشعب الماليزي من اختيار القيادة المنتمية للوطن، والبعيدة عن الفساد، لان الفساد يقصم الظهر ويعيق التنمية والتقدم بشكل كبير، حيث لا نهوض في ظل المفسدين الذين يغرقون في مسلسل نهب المقدرات العامة، والسطو على المال العام، والايغال في منهج ابعاد الاكفياء الامناء والمخلصين القادرين على تحمل المسؤولية الوطنية باقتدار.
والسؤال : هل لدينا من يتعظ، ويضع نصب عينيه مصلحة الوطن والشعب بعيداً عن الاهواء والغايات والمطامح الآنية والشخصية ؟ وهل فينا من يطلب العلم والموعظة والتجربة ولو في ماليزيا ؟؟