يونيو ويوليو والمهزومون نفسياً !!

بقلم : الشيخ سعد الفقي

وأنا في سن مبكرة .. كنت أراها.. إنها في السبعين من عمرها أو يزيد .. سوداء اللون .. ولأ ادري أهو لونها الطبيعي أم أنها خواتيم الأعمال .. تملك بيديها طرحة سوداء .. تحركها ذات اليمين وذات اليسار .. إنها لا تمل ولا تكل ولا يصيبها نصب .. وإن ظلت على حالتها لساعات طوال … وعندما كبر سني واشتد عودي .. عرفت إنها الندابة .. فقد كنت أراها عند كل بلوى أو مصيبة .. وهي تجاهر بحنجرتها القوية التي لا تتناسب البتة مع جسدها النحيل.. وكان لها بطانة من النسوة يرددن وراءها كل ما يبعث على الحزن والألم والتذكير بمناقب ومآثر الماضي الأليم .. وفي آخر الليلة كانت تتقاضى قروشاً زهيدة نظير ما قدمت من خدمات.

هذه العادة الممقوتة ظلت لسنوات طوال ثم اندثرت وتلاشت .. إلا أنها تعود لتطل برأسها مرة أخرى ولا أدري لماذا في شهر يونيو فقط .. صحيح أن الندابات كن نساءً وكنا نعدهن على أصابع اليد الواحدة .. إلا أن الندابين في زماننا اصبحوا من الرجال أو أشباه الرجال الذين تجدهم يتصايحون ويتقاتلون ويتباكون ويولولون على ما أصابنا في يونيو سنة 1967.

لقد أطلقوا العنان لأنفسهم وهم المهزومون نفسياً وتمادوا في غيهم . فمنهم من أسند الهزيمة لشعبنا الصابر والمقاوم وقد طالبوا بجلدة في ميدان عام . وآخرون قالوا وهم الكذبة إن عبد الناصر يجب أن يحاكم حياً أو ميتاً . فريق ثالث أطلق العنان لأسنانه لينهش في لحوم البشر كالكلاب المسعورة .. النكرات من تناولوا يونيو بمآسيه وآلامه تقمصوا دور الرهبان والحكماء والوعاظ وتناسوا أن المحن هي الأرض الخصبة لولادة المنح واستنهاض الهمم .. وأن مااصابنا لم يكن ليخطئنا ..

قالوا وتباكوا إن الزعيم عبد الناصر كان سبباً في كل الويلات والمصائب التي حلت بالبشرية قبل مولده وفي حياته وبعد مماته… وبالمرة حثي يرث الله الأرض ومن عليها .. وهو وحده في رأيهم من منح الأمريكان والصهاينة صكاً باغتصاب العراق وفلسطين ومزارع شبعا في جنوب لبنان … وهو من سلم رقابنا وإرادتنا دون ثمن لكل المتربصين بنا.

لست بطبيعة الحال في مقام الذود عن عبد الناصر الزعيم والقائد وحامي حمى الضعفاء والمقهورين .. وكيف لي أن أذود عن رجل بحجم قامته وتاريخه .. فقد سقطت كل تقولاتهم وتخرصاتهم ووأدت عند ولادتها ..

سقطت إرهاصاتهم عندما رفض الفقراء والمساكين الاستسلام والانزواء والتقوقع .. وكانت مبايعتهم له رمزاً وقدوة .. لقد كان بحق أخاً للكبير وأباً للصغير .. اختاروه بالمخالفة لكل أبجديات الاختيار .. وان علموا أن الطريق وعر وملئ  بالمطبات وأن الملأ يأتمرون به وبهم من كل جانب ليقتلوهم.

هؤلاء جميعاً من أزروا عبد الناصر في حياته وبعد مماته ومازالوا قابضين على الجمر, استشعروا حجم العزة التي أرساها زعيمهم .. وأن أصابهم القرح تلو القرح .. وما بين يونيو ويوليو .. نرى عجباً .. ففي الوقت الذي تبارت فيه كل وسائل الإعلام مرئية ومسموعة ومكتوبة لتنال من مسيرتنا جميعاً وتاريخنا بإيجابياته وسلبياته نجدهم في يوليو وقد أصابهم الخرص فهم أشبه بطلاب مدارس البكم والصم .. وفي يوليو كانت العزة .. وكانت الانطلاقة نحو المستقبل فقد تملكنا بحق الكرامة بكل ما تعنيه الكلمة من معان ومضامين.

يومها فقط كان العدو يحسب لنا ألف حساب .. وكفى عبد الناصر ورفاقه القضاء على الإقطاع وفلوله .. فقد أعيدت للفلاح كرامته المهدرة وأدميته التي خلقه الله عليها … لقد كان بحق مغلوباً على أمره رازحاً تحت نار الذل والقهر .. قالها عبد الناصر .. ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد والقهر.. وكان ابناً نجيباً للثأر والمناضل أحمد عرابي ..

في عهده وزعت الأرض على الفلاحين .. فهم ملاكها الاصليون وهم أولى بها .. وهي ميراثهم فقد أحيوها .. ومن أحيا ارضاً ميتة فهي له .. ومن قاع الريف ونجوعه انطلقت الثورة الخضراء .. يومها كنا نتباهى بما نزرع ونحصد وننتج.. أما اليوم وعلي أيديهم فقد أصبحنا بلا فخر في ذيل القافلة الإنسانية … كنا زراعاً وصناعا من خلال أسطورة القطاع العام الذي ظل حتى رحيل الزعيم الملاذ والملجأ والحصن المنيع أمام مؤامرات كانت تحاك لنا جميعاً من الخارج ومن الداخل … فقد تلاقت مصالح الأعداء الذين أرادوا القضاء على الثورة ونتائجها إلا أن إرادة الله كانت أقوى .. والحق أحق أن يتبع.

جاء عبد الناصر وصحبه الكرام فأعادوا للعمال حقوقهم المسلوبة والمنهوبة, حيث تحددت ساعات العمل ومنح الأجراء أجرا يضمن لهم حياة كريمة هي أبعد ما تكون عن الذل والمسكنة, وكانت ثمرة الثورة التي نصرت الفلاح الذي كان يكافح ليلاً ونهاراً في الوسايا والإقطاعيات بقروش زهيدة لا تسمن ولا تغني من جوع..وكفى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى