لكلّ سؤال جواب

كان يوم 9-7-2015 تاريخيّاً للعالم بأسره، مع أن قراءته تختلف إلى حدّ التناقض بين بلد وآخر وبين قطب وآخر. فقد كان هذا اليوم مبعثاً للأمل لدى ثلاثة أرباع سكان هذه الأرض في حين كان مثيراً للرعب والخوف الصامتين والمكبوتين لدى الربع الآخر. لن يعبّر المسرورون عن سرورهم بهذه السرعة كما لن يباشر القلِقون بالتعبير عن قلقهم لأن كلّ خطوة يجب أن تكون محسوبة ومدروسة، خاصة أنّ هذا اليوم ما زال يشكّل الخطوة الأولى على طريق طويل قد يستغرق سنوات حتى تظهر نتائجه واضحةً للعيان. كانت لغة الجسد بالنسبة للفريق المسرور ظاهرة لا تحتاج إلى تفسير وكانت الابتسامات وحركات الجسد والسلام الحار لثوان والنظرات الودية المتوائمة تقول: «نحن هنا، ونحن هنا لنبقى نستمر ونتطوّر». أما الفريق القلِق وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية فلم يتمالك نفسه إلا بالتعبير «أنّ روسيا تشكّل أخطر تهديد للأمن القومي الأميركي».

مع أن هذا اليوم لم يشهد الإعلان عن سلاح روسي جديد أو نقلة نوعيّة في الفضاء، ولكنه شهِد تحركاً أو صعود قمة سياسيّة اعتبرته الولايات المتحدة «أخطر تهديد لأمنها القومي».

إن ما شهده 9-7-2015 هو تكتّل حقيقي لاقتصادات صاعدة في العالم وإدراك عميق بضرورة التعاون والتنسيق بين دول هذا التكتّل. وقد اعتلى الرئيس فلاديمير بوتين موقع القمّة في هذا التكتّل فاحتلّ مكان القلب فيه وعلى يمينه الصين والبرازيل وعلى يساره الهند وجنوب إفريقية فيما بدأ يُعرف اليوم بتكتّل البريكس. وقد قرّرت هذه الدول التي تمتلك ثلثي الاقتصاد العالمي أن تنسّق سياساتها الخارجية والاقتصادية وأن تنشئ «بنك التنمية» برصيد لا يقلّ عن مئتي مليار دولار وأن يبدأ هذا البنك عمله في العام القادم. أي إن أي تبادل تجاري بين هذه الدول تحت سقف مئتي مليار دولار لن يمرّ في نيويورك ولن يستخدم الدولار عملة ولن يكون للولايات المتحدة أي دور فيه. وهذه هي بداية النهاية لاحتكار البنك الدولي والآي إم إف المتحكم باقتصادات الدول.

وقد فهمت الولايات المتحدة أبعاد هذه الخطوة ونتائجها المستقبلية التي سوف تنتهي بتحرير العالم من قبضة الهيمنة الغربية فاعتبرت روسيا أكبر خطر على الأمن القومي الأميركي لأن هذا الأمن قام على استغلال مقدرات الدول والتحكم باقتصاداتها واليوم يبدأ الرئيس بوتين وحلفاؤه خطواتٍ مدروسة لتحرير العالم من ربقة هذا التحكم وهذا ما يعتبره الأميركان إلحاق الضرر بأمنهم القومي. وفي اليوم الثاني، أي في  10-7-2015 عُقدت قمة شنغهاي أيضاً في مدينة أوفا الروسيّة وأعلن الرئيس بوتين انضمام الهند والباكستان ونوّه إلى عزمه حلّ النزاع بين هاتين الدولتين في إطار منظمة شنغهاي، أي بمعزل عمّا تريده الولايات المتحدة من استمرار النزاعات والحروب بين الدول. ولا ننسى الصورة اللافتة لاجتماع الرئيس بوتين مع الرئيس روحاني والتنسيق الوثيق بين الدولتين ودعم روسيا المطلق لرفع العقوبات عن إيران.

وقبل هذا وذاك أعلن الشعب اليوناني تمرده على سياسات البنك الدولي وسياسات الدائنين وأيّد حكومته برفض هذه السياسات، وكذلك تخطو إيطاليا والبرتغال وإسبانيا خطا مماثلة لتلك التي اتخذها الشعب اليوناني. وغنيّ عن القول أن هذا التحرّك الأوروبي يتناغم مع توجهات البريكس وشنغهاي ومع طموحات معظم أبناء البشرية الذين سئموا نزعة الهيمنة الغربية وتحكم الغرب بمقدراتهم وثرواتهم ومستقبل شعوبهم.

حين فرضت الولايات المتحدة العقوبات على روسيا وكأنها دولة نامية أرادت أن تستخدم أسلوبها الترهيبي مع روسيا وفرض قناعتها أنها تملك العالم وليس لدى الآخرين سوى الطاعة فأتى جواب بوتين هادئاً مدروساً ذكيّاً وحاسماً. لقد بدأ هذا الجواب باتخاذ روسيا والصين أول فيتو مزدوج بشأن الأزمة السورية في 4 تشرين الأول 2011، الذي تبعه استخدام روسيا والصين هذا الحقّ ثلاث مرات في عامي 2012 و2014 لصالح الشعب السوري، وتبلور على المستوى الدولي في 9 و 10-7-2015 ليقول إن العالم لم يعد أحادي القطب وإنّ قطباً هاماً قوياً شرقيّاً بمعايير أخلاقيّة واقتصاديّة وسياسيّة مختلفة جداً يولد اليوم بحكمة ودراية وخطا واثقة لصناعة مستقبل عالم متعدد الأقطاب يقف ضدّ الظلم والهيمنة والاحتلال والإرهاب وضدّ المبدأ الطفولي بمعاقبة كلّ من يعصي للغرب الاستعماري أمراً. وهكذا أثبت بوتين أنه لكلّ سؤالٍ جواب. ولا شكّ أن الغرب لن يطرح عليه أسئلة بعد اليوم لأنه لا يتحمّل مثل هذه الأجوبة ولا طاقة له برفضها أو إلغائها.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى