يرسم الفنانُ كلماتٍ مكثفةً في ذهنه، قصةً تجولُ في خاطره، وقد لا يتقنُ فنّ القصّ، ومراوغةَ الحروف،ولا مسكَ القلم، لذا، فإنه يأخذ ريشته ويغطّها في الألوان ليرسمَ حروفا أرّقته. فهل الكاتب، أو كاتب القصة، يلجأ إلى كتابة قصته بشكل لوحة تترك مساحة واسعة لذهن القارئ ليشكلها كما يريدها الكاتب أو القارئ؟ وهذه المرّة ليس بمزج الألوان، وإنما يلجأ الكاتب إلى إلقاء ضوءٍ على بقعةٍ محددةٍ تؤرّق الكاتب، وقد لا يراها غيره، وعلى القارئ هنا أن يسلّط ضوءه على تلك البقعة، وأن يرى اللوحة المتمثلة في الحروف.
” مراوغون قساة”، مجموعة قصصية تحوي قصصا وقصصا قصيرة جدا للكاتب المبدع يوسف ضمرة، صدرت عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمان عام 2014 . ولا أدري من هم المراوغون القساة، هل هم أبطالُ القصص الذين حاول الكاتب ترويضهم، لكنهم خرجوا عن نصه، واتجهوا إلى المواقف التي يريدونها، أو هو الكاتب المراوغ الذي يتملص أحيانا من المواقف التي وضعهم فيها، ليقول هم مجرد أبطالِ قصص؟
يقول الكاتب في قصة”إيما وأنا” التي استقاها من رائعة غوستاف فلوبير”إيما بوفاري”:
”حدقت في ملامِحها جيدا. مضتْ سنواتٌ وهي بهذه الملامح التي لم تتغير. كنتُ يوميا أنتظر أن أرى سنةً زائدةً على الوجه.. ربما تحت العينين أو على العنق. لكنّ الرسام كان حريصا كما يبدو، فاتخذ ما يلزم من احتياطات ضدّ المناخ وتقلبات الطقس، فظلت”إيما بوفاري” كما هي، وقد أمسكت علبة الزرنيخ بيدها، وشردت نظرتها نحو مكان ما، لم أتمكنْ حتى اللحظة من تحديده، وهو الأمرُ الذي عجز عنه الروائي نفسه. خطر لي أن أحاكمها. أن أسألها عن سرّ حماقاتها. أن أعرفَ لماذا رفضت حياة زوجها الطبيب الوادعة؟ هل كان حقا ينقصها صخب باريس وحفلاتها الماجنة؟ وحين تذكرت أنني أحمل في يدي علبة زرنيخ مشابهة، أدركت أن ”إيما” كانت تحدقُ مثلي في لوحة ما!”.
هنا تُمحى الحدود ما بين اللوحة والنص، ”إيما بوفاري” لوحة متحركة تركت أثرها في كثير من الأدب العالمي ، وحظيت بالنقد، وقُدّم فلوبير إلى المحاكمة بتهمة أنها تسيء إلى الأخلاق السائدة.
حين استند الكاتب في ”مراوغون وقساة” إلى هذه الرواية، كان يدرك أهمية”اللوحة” التي رسمها فلوبير في روايته، فكان بالتالي شديد التأثر بها، حتى أن كليهما، إيما والكاتب، كان يحدق في لوحة ما، وكلاهما يحمل في يده علبة الزرنيخ.
ومن القصص الجميلة أيضا في هذه المجموعة” الرقصة الأخيرة”:” الشجرة التي في حديقة المنزل، تغيّر كلّ ليلة شكلها ووقفتها ورقصتها. أنا أراها من خلف زجاج الشرفة تتلوى في الريح كراقصة محترفة، وأسمع صوت اصطكاك أسنانها من البرد تحت المطر. لكنها لا تعرفُ أنّ كلّ هيئة لها تذكرني بأحد ما.. المرأة التي ترقص مسحورة على أنغام خوليو، والعجوز التي تئن تحت ثقل حزمة الحطب الطري في صباح باكر.
في قصة أخرى كنت سأقطع هذه الشجرة، ولكني في هذه القصة أبقيت عليها، وأشفقت عليها من الرقص المتعب ذات ليلة عاصفة.
في الصباح فكرت في مواساتها، فوجدتها ملقاة على بطنها. فكرت في دفنها، لكن ما أحزنني هو أنني سأكون الشخص الوحيد في الجنازة. فقمت على الفور بإغلاق الستائر، وأطفأت مصباح الضوء. وفي الليلة التالية كان ثمة من يقف في الشرفة المقابلة، ويراقب حركاتي بفضول كبير، ودهشة أكبر.”.
قصص تتداخل داخل قصص، يؤجل الكاتب (البطل) كتابة بعضها ريثما ينتهي من كتابة قصته هذه، وتكون في أغلب القصص النهايات مفاجِئة. وتتداخل القصة مع اللوحة المتحركة بحيث تلوح لنا الشجرة وكأنها ترقص بالفعل، وكأنها تلك المرأة التي ترقص مسحورة بصوت خوليو.
تسع وخمسون لوحة، في تسع وخمسين قصة، مليئة بدهشة تشدك لتزاحم عينيك وتنتهي من التحديق في تلك اللوحات. كتاب جميل أدهشني، وتمنيت أن أخوض في كل القصص. وأتركها لمن يبحث عن الدهشة في عالم تنوء ساعاته تحت وطأة الروتين والانتظار.
في ذكرى رحيله الـ ٥٣ .. قراءة في حيثيات “العروة الوثقى” بين عبد الناصر وجماهير الشعب العربي
بعض الناس يشبهون الوطن، إن غابوا عنا شعرنا بالغربة (نجيب مح... إقرأ المقال