غزة.. بين سفن الحرية وعملية نابلس
بقلم : عبد اللطيف مهنا
كما هو المتوقع، والذي لا يُنتظر منهم خلافه، ارسل الصهاينة سفنهم الحربية إلى المياه الدولية فأسروا السفينة السويدية “مريانا”، التي تقود “اسطول الحرية” الثالث، الساعي ناشطوه الدوليون إلى كسر الحصار المضروب على غزة، وسحبوها إلى ميناء اسدود الفلسطيني المحتل، ومن ثم ما بات معروفاً، التحقيق معهم ثم ترحيلهم جواً إلى من حيث أتوا. أما باقي اخواتها الأربع فعدن من حيث انطلقن ليكررن المحاولة في الأسطول الرابع لاحقاً، وليكرر الصهاينة من ثم قرصناتهم مرات أخرى.
ناشطو كسر الحصار الإبادي على مليون وتسعماية ألف إنسان غزيّْ كانوا يوقنون سلفاً بما سيحدث لهم، كما أن الغزِّيين لم يكونوا يأملون كثيراً في وصول قاصديهم إليهم، لأن كليهما موقنان أيضاً بأن البلطجة الصهيونية لا رادع لها، لا كونياً ولا عربياً ولا وطنياً. سنوات المحنة الغزِّية المديدة اثبتت لهما أن هذا العالم لا يريد أن يسمع ولا أن ينطق حيال كل ما له علاقة بالجرائم الصهيونية. ونستدرك هنا، فنستثني بعض الهيئات الشعبية والشخصيات الاعتبارية التي تمثلت ببعض ممن أُسرت طلائعهم في قارب “مريانا”، وهؤلاء، وإن هم الى ازدياد، لكنهم يظلون حتى الآن على هامش الفعل في عالم متواطىء على تغطية واستدامة الجريمة الصهيونية منذ بداياتها في فلسطين، ويمكن أن نضيف لهم شعبها الذي نُكب وأمته التي لم تعد تملك قرارها.
الصهاينة يدركون هذا ويطمئنون اليه، لذا لم يك مستغرباً أن يظل منسوب بلطجتهم إلى ارتفاع. هم مطمئنون إلى أنه يجوز لهم ما لا يجوز لسواهم. ومنه، حرية ارتكاب القرصنة وانتهاك قوانين البحار المتعارف عليها. لذا، هنأ نتنياهو قراصنته على فعلتهم، ناعتاً بوقاحة أمثاله تظاهرة اسطول الحرية الثالث ب”مظاهرة نفاق”، وزاد فزعم، مستنداً إلى باطل حال واقع كوني، أن “الإجراءات الإسرائيلية تتوافق مع القانون الدولي”! ولماذا لم يك مثل هذا من من هو من مثل نتنياهو، أو لماذا هو لايأخذ راحته، وهو يرى ويسمع ويلمس باليد إنشغال الكل من حوله، في العالم والمنطقة، بحروبه على الإرهاب ويغمض العين عن الإرهاب الصهيوني؟!
ومع هذا، ورغمه، يمكن القول، أن تظاهرة اسطول الحرية الثالث قد حققت هدفها الوحيد، وهو تذكير العالم أن غزة، التي لا يتذكَّرها إلا مرةً في كل حرب عدوانية تشن عليها وملحمة صمود اسطوري في مواجهتها، لازالت محاصرة!
ما حدث حري بأن يقودنا إلى بدهيات تحجبها متوالية تسارع الأحداث واللغط المرافق لها، ومنها، أن الحصار لم يضرب على غزة أصلاً، صهيونياً وعربياً وكونياً، إلا لهدف رئيس هو تركيعها، وإنه لن يُرفع إلا إذا تخلَّت عن سلاح مقاومتها، وما خلا ذلك هو لعب في الوقت الضائع، أو خضيض بلا زبد وقرقعة بلا طحن. ومنه ما يتعلق بمفاوضات غير مباشرة تجري حول هدنة مقابل تخفيف لحصار وسماح لإعادة اعمار وتبادل للأسرى، ينشط محاصرا غزة والصامتين عليه في التوسط بشأنها، مستغلين حاجة غزة لالتقاط أنفاسها التي يخنقها حصار رهيب غير مسبوق البشاعة في تاريخ البشرية. دوافع متوسطي التهادن، غرباً أو عرباً، لا تخرجهم من سياق تليد تواطؤهم، لأنه ما كان منهم إلا باعتباره حاجة صهيونية أولاً مبعثها خشيةً من انفجار غزي محتوم ووشيك، بعد أن بلغ سيل فظاعات غاشم حصارهم لغزة الزبى، الأمر الذي سوف يكون له ارتداداته التلقائية في الضفة المختنقة بدورها بقبضة التنسيق الأمني الأوسلوي الشائن مع المحتلين، والتي يزدرد التهويد على مدار الساعة قطعاً جديدة من اشلائها…مثلاً:
تقرير مجموعة الأزمات الدولية الأخير يتوقع انفجاراً مقدسياً في مدى لا يتجاوز الخريف القادم، ويقرنه بمرور 15 عاماً على انتفاضة الأقصى، ورؤبين فيلين رئيس الكيان الصهيوني يولول معقِّباً على ازدياد وتيرة العمليات الفدائية الفردية، التي يصفها رئيس الشاباك يورام كوهين ب”الإرهاب الشعبي”، ويهوله تطوُّرها، وصولاً إلى عملية نابلس، التي اردت مستعمراً واثخنت ثلاثة: لقد “تحوَّل شهر رمضان أمام أعيننا إلى شهر من الإرهاب”…فماذا عن “أوسلوستان”؟!
لا شىء يقلق الأوسلوستانيين أكثر من حديث هدنة تلافي الأنفجار بتخفيف الحصار. الحصار الذي يسهمون ويأملون في إدامته سبيلاً لتطبيق أنموذج تنسيقهم الأمني في الضفة الأسيرة على غزة المقاومة. لقد بدا هذا في حزّورة حكومة الحمدالله المملة، استقالت أم أُقيلت، ام تنتوي الاستقالة، أم سيعاد تكليف رئيسها المستقيل؟! ثم إحالة هذه الأحجية الى تنفيذية المرحومة المنظمة، التي يتم استعادتها عادة من رف النسيان لتمرير تنازل ما، أو تهرباً من حكاية “الإطار القيادي”، المتفق عليه في كرنفال القاهرة التصالحي الغابر لإعادة بعث وترميم المنظمة…وكله دفناً لجدث ما يعرف ب”مصالحة الشاطىء”، التي على اساسها شُكِّلت ما اطلق عليها في حينه “حكومة التوافق”، والتي سرعان ما تحولت إلى اللا توافق…الحكومة التي يشترط الآن لإعادة تشكيلها، الذي رسى مؤخراً على تكليف رئيسها بإجراء تعديل طفيف عليها، سقفاً وصلنا بيان محدداته عبر فابيوس ونقلاً مباشراً عن أبي مازن:
الحكومة الأوسلوستانية العتيدة “لن تتضمن إلا اطرافاً تعترف بإسرائيل، وتنبذ العنف، وتوافق على مبادىء الرباعية، وبالتالي، هى لن تضم حماس”. ويزيد فابيوس لافض فوه موضحاً، “وإن أي حكومة ستكون حكومته (يقصد أبو مازن)،بمعنى أن برنامجها برنامجه”!!!
…لا يسمع راهن هذا العالم إلا من خلال الأذن الصهيونية، وهذه لا تسمع إلا ما اسمعتها إياه عملية نابلس، وغزة لن يفك حصارها، الصهيوني، العربي، الكوني، إلا انتفاضة الضفة.