دعوة لاطلاق قوة مصالحة عربية بموازاة القوة العسكرية المشتركة

كلما اكتمل العقل واغتنى الفكر واتسعت دائرة الرؤية، كلما حضر التسامح والاعتدال، وحل الحوار محل الشجار، وتحققت نعمة التراضي والتفاهم على حساب لعنة التنابذ والتخاصم.
العكس صحيح ايضاً، فكلما تصحر العقل وتبلد الفكر وضاقت دائرة الرؤية، كلما حضر التعصب والتطرف، وحل سيف الاخضاع محل منطق الاقناع، واستعرت نيران العداوة والمباغضة والمباعدة على حساب التعايش والموادعة والمقاربة.
نسوق اليوم هذه المقدمة البديهية المعروفة للجميع حق المعرفة، لنؤشر على ان ازمة العرب الراهنة والمتمثلة في استشراء المذابح والصراعات والفوضويات والحروب الاهلية والبينية، هي انعكاس دموي لازمة العقل والفكر الصعبة والمرعبة التي تأخذ بخناق امتنا يميناً وشمالاً وعلى مختلف الصعد والمستويات، وتحول بالتالي بيننا كعرب وبين القدرة على التحاور والتشاور والتوافق وانتاج القواسم المشتركة، وتبني الخيارات الموحدة، او حتى المتقاربة، التي من شأنها انقاذ شعبنا العربي المعذب من هذا التيه الموحش، والعودة به الى رحاب الفعل المبني للمعلوم والمؤدي الى جادة الصواب.
ليس من الضروري اعادة تعريف وتوصيف الحال العربي الراهن، فهو لم يعد خافياً على قريب او غريب، بل لعله مفضوح باكثر مما يلزم، ومفتوح على اسوأ الاحتمالات، ومواظب على الخروج في الناس شاهراً بؤسه وجنونه وتعاسة ايامه، بعدما غشيته موجات داعش واخواتها من السلالة الارهابية التي لا مثيل لها سوى كوارث الطبيعة كالزلازل والبراكين والاعاصير، او فواتك الاوبئة كالكوليرا والايدز والطاعون.
اسباب هذا الحال العربي البائس والمخيف لم تعد هي الاخرى سرية او طلسمية، فقد اشبعها الكتاب والمعلقون والدارسون بحثاً وتشريحاً وتحليلاً، حيث وضعوا اصابعهم على الكثير من مواطن الداء واماكن الخلل والخراب والتقرحات التي افرزت كل هذه البلاوي والدواهي والدواعش الماثلة للعيان والباعثة على الغثيان والكفيلة، لدى استمرارها، ليس بتخريب الاوطان وتهديم الدول وتمزيق الشعوب العربية فحسب، بل باعادتها ايضاً الى كهوف العصر الحجري، وابادتها فعلياً ومعنوياً، وحرمانها نسغ الحياة وحق البقاء.
وعليه، فليس المهم اذن توصيف هذا الحال العربي وتصنيفه والوقوف على اسبابه وبواعثه.. المهم الآن بحث سبل التصدي العاجل والناجع لكوارثه ومتوالياته.. المهم وضع خطة عمل او خارطة طريق للخروج القومي الجماعي من جحيم يومياته الدامية، ثم تعبئة وتحشيد سائر القوى والمجاميع والهيئات الشعبية والمؤسسات الرسمية العربية القادرة على اخراج هذه الخطة او الخارطة الى حيز التطبيق والتنفيذ.
كم كان مؤسفاً ومجحفاً بحق هذه الامة، صدور قرار عن القمة العربية الاخيرة في شرم الشيخ بتشكيل قوة عسكرية مشتركة لمحاربة الجماعات الارهابية في الميدان، دون الالتفات الى تشكيل قوة اخرى موازية وضرورية ولا تقل اهمية عن القوة العسكرية، ونعني بها قوة سلام ووئام وتفاهم قومية تتولى مهمات المصالحة والتجسير والتوفيق بين مكونات هذه الامة، ليس على صعيد الانظمة الرسمية المتنازعة فقط، بل ايضاً على صعيد القوى والتجمعات الاهلية المتناحرة فيما بينها داخل اي دولة عربية تعصف بها الاضطرابات الدامية، وتوشك على تدمير وحدتها الوطنية وكيانها الجغرافي والديموغرافي.
نعرف ونعترف ان اطلاق قوة عسكرية مشتركة للضرب الجماعي الموحد على ايدي عصابات التخريب والارهاب، امر محمود ومطلوب، وبالغ الاهمية والضرورة، بل لعله قد تأخر كثيراً عن موعد تحقيقه.. ولكن نجاح هذه القوة المشتركة في اداء مهامها العسكرية على الوجه الافضل والاكمل، يتطلب انهاء – او تجميد – الخلافات والصراعات الراهنة والطاحنة بين الدول العربية، وتوفير بيئة سياسية واعلامية ودينية وامنية وفاقية وتصالحية مؤهلة لمحاصرة عصابات الارهاب والخراب، وتجفيف ينابيع قوتها ومصادر تمويلها وتسليحها، ذلك لاننا نعرف جميعاً ان معظم هذه العصابات يحظى بدعم وتمويل دول عربية محددة، وينوب عنها في خوض ”حروب بالوكالة” على ساحات دول عربية اخرى خصيمة لها.
تقاعس قمة شرم الشيخ عن المبادرة لتشكيل قوة مصالحة ووئام عربية، لا يعني فوات الفرصة وانقطاع الامل في تدارك هذا الموضوع واستلحاقه على الفور.. فالفرصة ما زالت سانحة، والامكانية ما زالت متاحة، والضرورة ما زالت قائمة وملحة، ولكن سؤال هذه المبادرة الذي يتطلب الاجابة عنه هو : من يتطوع لتعليق الجرس ؟ ومن يقوى على تبني هذه الاجندة القومية الانقاذية وطرحها على جدول اعمال النظام العربي المأزوم ؟
ربما يكون من واجب مصر انتداب نفسها للنهوض بهذه المهمة الصعبة، ليس لان مصر مركز الثقل العربي ماضياً وحاضراً فقط، ولا لانها تسعى في عهد الرئيس السيسي لاستعادة دورها العروبي فحسب، ولكن لانها ايضاً صاحبة المبادرة الخاصة بتشكيل القوة العسكرية المشتركة التي ستظل، بالقطع، ناقصة واحادية الجانب ومحدودة الفاعلية والتأثير، ما لم يتم استكمال جانبها الآخر المتمثل في استنفار العقل السياسي والنهج الوفاقي والروح التصالحية والتضامنية العربية، توطئة للخلاص من حالة الاستقطاب والاحتراب القاتلة، وسكب الماء البارد على الرؤوس العنجهية والفتنوية الحامية.
تملك مصر ان تقوم بهذا الواجب، وتؤدي هذه الرسالة، وتتحمل اعباء هذه المسؤولية التي تجمع ما بين البعدين الوطني المصري والقومي العربي.. فقد ثبت بشهادة الحاضر الراهن وافادة التاريخ القريب والبعيد، ان الخلاص المصري الخاص مرتبط اشد الارتباط بالخلاص العربي العام، وان قوة مصر وامنها واستقرارها وازدهارها مشروط بحركتها المزدوجة حول ذاتها المصرية وحول هويتها العربية معاً، شأنها في ذلك شأن دوران الكرة الارضية حول نفسها لانتاج الليل والنهار، وحول الشمس لانتاج الفصول والاعوام في ذات الوقت.
ولعل مما يساعد قيادة مصر في اداء هذه المهمة الجليلة ويساهم في توفير فرص نجاحها، وصول جميع الانظمة العربية، دون استثناء، الى هاوية الافلاس والانهزام، سواء ما كان منها منشغلاً باضطراب ساحته الداخلية، او مترقباً ومتحسباً من وصول الرياح السوداء الى بيته، او متواطئاً مع عصابات الارهاب ومتآمراً على بني قومه.. ولعل الفشل الذريع الذي لحق ”بعاصفة الحزم !!” السعودية – الخليجية التي انصبت على جياع اليمن، ابلغ دليل على خيبة المتهورين وسقوط رهانات الرعناء المغترين باموالهم، واوضح برهان على ان الكل العربي خاسر ومذعور وآيل للدمار والانهيار، ما لم تنهض ”الرافعة المصرية” او اية جهة اخرى بمسؤوليات مشروع المصالحة القومية والتضامن العربي والتنازلات المتبادلة.
لا لزوم للعناد والمكابرة والانكار لدى بعض الدول الخليجية، فهي بكل المقاييس مأزومة ومهزومة ومرشحة لجملة من المصاعب والمتاعب الوشيكة مثلما بقية الجمع العربي.. وها هي السعودية – ام ندهتين – قد فقدت للتو نصف هيبتها ومكانتها ووزنها المعياري والاعتباري، حين استنجدت بربيبتها وحبيبتها الباكستانية فاستكبرت هذه على سيدتها، ورفضت اغاثتها ونجدتها، وحذت حذو دول عربية واجنبية اخرى كانت السعودية تحسب انها قيد امرها ورهن اشارتها.
لقد تجلت عظمة جمال عبدالناصر، اول ما تجلت، في قدرته الفائقة على سبر اغوار النخب والجماهير العربية في زمانه، ثم في تعبيره الامين والشجاع عن اشواقها وآمالها وتطلعاتها.. ولو تقيض للقيادة المصرية الحالية سبر اغوار النخب والاحزاب والجماهير الشعبية ما بين المحيط والخليج، واستكناه دخائلها ومشاعرها ورغباتها، لوجدت ان الغالبية العربية العظمى، او ما يعرف ”بالكتلة التاريخية” قد قرفت هذا الحال المزري، وامتلأت فزعاً من قادمات الايام، واستماتت للخلاص من هذه الدوامة الجهنمية، وابدت كامل استعدادها للالتفاف حول لجنة المصالحة العربية العتيدة، والمساهمة بمختلف الوسائل والاساليب في دعمها واسنادها وانجاح مقاصدها.
قد يرى الكثيرون في دعوتنا لمشروع المصالحة ضرباً من الوهم الخيالي، ونوعاً من الكتابة بالتمني وحتى بالتحشيش السياسي.. ولكننا نتساءل بين يدي الجميع : اين المفر ؟ وما هو البديل ؟ وهل هناك حلول وخيارات سهلة للازمات العويصة والمعضلات الصعبة ؟ وهل يجوز لضخامة المصاعب والتحديات ان تشل روح المقاومة وارادة الفعل، وتبرر التخاذل والتواكل والتهرب من المسؤولية والتسليم بالامر الواقع والمصير الموجع والمفجع ؟؟
”وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”.. صدق الله العظيم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى