شموع ودموع على قارعة العيد الحادي والعشرين لميلاد ”المجد”
يبدأ الانحطاط حين لا تعود الكلمات تعبر عن معانيها
(فلاديمير لينين)
مع صدور هذا العدد الماثل بين يدي القارئ الكريم، تكون ”المجد” قد غرست في روابي عمرها واحداً وعشرين عاماً، واضاءت في عيد ميلادها احدى وعشرين شمعة، وقطعت على دروب العطاء والعناء شوطاً طويلاً امتد ما بين القرنين العشرين والحادي والعشرين، وجهدت واجتهدت بكامل قدرتها واستطاعتها في التعبير الصادق والامين عن الخط القومي العربي المغدور والمفترى عليه من الاعراب والاغراب على حد سواء.
مع صدور هذا العدد، تقف ”المجد” في حضرة نفسها.. تستذكر وقائع تاريخها، وتستحضر مراحل مسيرتها، وتقلّب صفحات تجربتها، وتستعرض جداول ازمتها المالية الخانقة، وتوازن بادق المعايير والمكاييل بين المضي قدماً في مغامرة الحضور والصدور تحت طائلة الخسائر والديون المتراكمة، وبين الغياب والاحتجاب، والانقطاع عن مزاولة الحياة والاختناق بنقطة آخر السطر.
ما افدح القرار في غياب حرية الاختيار.. ما اصعب القرار الاجباري المفروض بقوة الارغام ودكتاتورية الاضطرار.. ما اشق القرار المحشور تحت مكابس الضغط والمحاصر بين قوسين ضيقين، او بين نارين حارقتين، او بين امرين احلاهما مر بل شديد المرارة وعلقمي المذاق.. ولكل هذا ربما يكون من الافضل والاسهل ترك المجال واتاحة الفرصة امام القرار ليبلور ذاته تلقائياً، ويشق طريقه عشوائياً، ويفرض على ”المجد” شروطه واحكامه بمعزل عن رأيها وارادتها.
منذ انطلاقتها، قبل واحد وعشرين عاماً، اختارت ”المجد” ان تعمل وفق مفهوم ”خدمة العلم”، وان تتطوع بالكامل لنصرة قضايا الامة العربية، وان تترهبن طوال الوقت في محراب الرسالة القومية الوحدوية، وان تستعيد – ما امكن – وهج الصحافة العربية الاصيلة ودورها العريق والعتيق، حين كانت صحافة جهادية وتطوعية رصينة وابية لم يلوثها مال النفط، ولم تشوهها شهوة الكسب والارتزاق، بل كان اصحابها وعمداؤها ينفقون عليها من جيوبهم، ويعشقونها من صميم قلوبهم، ويكرسونها لخدمة الصالح الوطني العام، وينزهونها عن البيع والابتذال وتأجير الضمير، ويتجشمون في سبيل حريتها اقسى عذابات السجن والنفي والاضطهاد.
للصحافة، في قاموس ”المجد”، تعريف رومانسي جميل ونبيل ومغاير للوضع الراهن، فالصحافة بموجب هذا التعريف، منزل عشق وذوق وخلق.. بيدر غلال وسنابل وفيض عطاء.. رباط وجداني حميم له هيئة قوس قزح يشد حروف الكاتب الى ذكاء القارئ.. تكوين معياري واعتباري قوامه يتجسد في تنوير، ومنبر تعبير، ورافعة تطوير وتحضير.. ولذا فالصحافة ليست مجرد اداة نقل وتوصيل روتينية، وليست ساعي بريد محايد يتولى حمل الرسائل والطرود من المرسل الى المستقبل دون تدخل فيما ينقل ويحمل، وليست – بالطبع والقطع – بوقاً لمن يدفع ولا مطية لمن يملك ان يؤذي ويقمع.
هذا التعريف او التصنيف الحضاري والمعياري للصحافة الشريفة والعفيفة، اثخن ”المجد” بالجراح، وجر عليها رتلاً من المشاكل والويلات، وحال بينها وبين زيادة نفوذها وتعميم رسالتها، نظراً لانه دفعها مبكراً الى ساحة المنازلة قبل اشتداد العود واكتمال الاستعداد، ووضعها منذ البداية في مهب رياح غاضبة طالعة من عدة جهات وفئات باغية، بعضها ينتمي لطبقة الحاكمين الظالمين، وبعضها ينتسب لاعداء الامة وزبانية الحقد التاريخي على خطاب الوحدة والحرية والاشتراكية والقومية العربية.
كل المصاعب والنوائب التي تهاطلت على رأس ”المجد” طوال واحد وعشرين عاماً، نبعت من منظور عقابي وتأديبي لها، لانها لم تفرط بمبادئها، ولم تهادن اعداء امتها، ولم تساوم على شرف مواقفها، ولم تقل كلمتها وتمشي، وفق الشعار السائد في الساحة الصحفية العربية، وانما قرنت القول بالفعل المطابق، وعززت الكلمة بالموقف الثابت، ووضعت النقاط الصريحة على الحروف الجريئة، دونما تقية او باطنية او ازدواجية من اي نوع.
قد لا تصمد ”المجد” طويلاً، وربما تبرح المسرح الصحفي قريباً وتلوذ بسراديب الصمت والغياب.. ليس لانها اخطأت، بل لانها اصابت باكثر من اللازم.. ليست لانها كذبت، بل لانها صدقت باكثر من المطلوب.. ليس لانها احجمت وتخاذلت، بل لانها اقدمت واستبسلت باكثر مما يطيق الحكام.. ليس لانها تربحت وارتزقت، بل لانها ترفعت وتعففت وسط واقع فاسد يضيق ذرعاً بالشرف والعفاف.. ليس لانها نشرت التفاهة والسفاهة وسقط الكلام، بل لانها استمسكت بالخطاب العقلاني والتناول المنهجي والجملة الرشيقة والانيقة.
نظرة تمعن وتفحص واحدة تكفي للتيقن والتأكد ان مجمل بلاء وشقاء امة العرب قادم من بوادي الامية، وطالع من مجالس الهرج والثرثرة والمشافهة، ونابع من منابر التلقين والتبليغ والتحفيظ والمترادفات اللسانية.. فقد غابت عن بلادنا شمس الكتابة والقراءة، وتلاشت شهية الاقلام لمغازلة الاوراق، وبارت مهنة الصحافة والطباعة والنشر، وتكدست طبقات الغبار فوق دفاتر النثر ودواوين الشعر ومجلدات الفكر، فيما تلألأت ”ثقافة” الدردشة والفرفشة والنعنشة فوق شاشات تويتر ويوتيوب وفيسبوك وواتس اب السخيفة والسقيمة.
وعليه، فلربما تغادر ”المجد” هذا العصر الداعشي الجهول، ليس لانه تجاوزها بل لانها تجاوزته، وليس لانه تقدم عليها بل لانها تقدمت عليه، وليس لانه سبقها بل لانه تخلف عنها، ونكص على عقبيه، وضع الماضي نصب عينيه.. فيما تمسكت هي بخيار التقدم، وتشبثت بارادة النهوض، وشخصت بالبصر والبصيرة نحو آفاق المستقبل، واعتبرت ان الماضي لا يعود ولا يستعاد بعدما مضى وانقضى وشبع موتاً.
كثيرة هي النفائس والغوالي والمنارات والجماليات العربية الآخذة في الفناء والاختفاء والانطفاء هذه الايام، وكثيرة ايضاً هي الغواشم والمباذل والمهازل والجاهليات التي تفرض ذاتها على امتنا، وتأخذ بخناقها لتهوي بها الى الحضيض وترغمها على الخروج من التاريخ.. وليست ”المجد” اهم واغلى من الدول التي تتفكك، والشعوب التي تتشرد، والجيوش التي تتشرذم، والاوطان التي تتقسم، والمتاحف والكنائس التي تتهدم.. ولكن المؤسف ان تغيب ”المجد” في اوج الحاجة لهذه المنصة الناصرية السامقة، وفي قمة اللزوم الوطني والقومي للاذان العروبي الاصيل والمؤهل جداً لانقاذ هذه الامة من نوبات جنونها وانتشالها من قعر نكبتها المأساوية الراهنة، ووضعها من جديد على دروب الوحدة والتضامن والتكامل والعمل العربي المشترك.
هذه الامة اضاعت نفسها حين اضاعت عروبتها.. فقدت هويتها وحقيقتها وشخصيتها ومكانتها بين الامم حين فقدت معالم ومعاقل قوميتها، وركبت زوابع الدفع الرباعي التي اوصلتها الى الدرك الاسفل من النعرات الطائفية والمذهبية والقطرية والعرقية الفاجرة.. وليس لهذه الامة من مرشد للهداية او منقذ من الضلال سوى الخيار القومي الوحدوي المنبعث، هذه المرة، من قلب التجربة الحية، والمعاناة اليومية، والضرورات المعاشية والحياتية الاساسية، وليس من سطور الطروحات الفكرية، ومتون الادبيات النظرية والعقائدية.
من منظور ناصري بانورامي شامل وهادف الى توحيد صفوف العرب وتعبئة قواهم وتحشيد طاقاتهم، اعتمدت ”المجد”، منذ اليوم الاول لاشراقتها وانطلاقتها، استراتيجية الجمع وليس القسمة.. التوفيق وليس التفريق.. الموادعة والمقاربة وليس المشاكسة والمباعدة بين التيارات العربية الثلاثة الفاعلة : القومي والاسلامي واليساري، واهالت التراب على خلافات الامس ونزاعاته المعروفة، وفتحت صفحة جديدة لجهة التصافي والتلاقي والتصالح، ودعت لتقديم اقصى ما يمكن من التنازلات المتبادلة وتعظيم اكبر قدر من التوافقات والقواسم المشتركة بين هذه التيارات.. غير ان تيار الاسلام السياسي بقيادة ”اخوان اردوغان” ما لبث ان احجم بعدما اقدم، وتنصل بعدما التزم، وافسد – كالعادة – كل الترتيبات وخرق سائر التعهدات والتحالفات.
شطحنا، واخذتنا التداعيات السياسية بعيداً عن عرس ”المجد” العابق بالفرح والترح معاً، وعن عيد ميلادها المحفوف بالشموع والمبلل بالدموع في آن واحد.. ذلك لانها عالقة حالياً في عنق الزجاجة، فلا تدري ان كانت سوف تخرج سالمة او تقضي دون ذلك.. كل الاحتمالات مفتوحة، فقانون الصدف والمفاجآت لم يتقاعد بعد، وتفاؤل الارادة وقوة الامل والاستبشار امضى وافعل – باذن الله – من نزعة اليأس والقنوط والاحباط.. وان مع العسر يسراً، ان مع العسر يسراً.
من العجب أن نجد في زمن المصلحة، وموت المبادئ والمبدئي، شخص/مؤسسة يتحدث بهذه الروح، فهو ما زال متمسك بمعبده على قمة الجبل، عسى أن نهتدي بهديه.